RR

ما يجهلانه

ربما أنا من يتكلّم. أو ربما أنت. أو ربما أنا وأنت. هذا غير مهم. نحن، أي أنا وأنت، نجلس، أو ربما أنا لوحدي أجلس في المترو، ومقابلي يجلس شخصان، ليس بالتحديد مقابلي، بل بالأحرى أقرب إلى الجهة اليمنى. رجل وامرأة. الرجل ينظر إليّ، مائلاً إلى الأمام، بينما المرأة تميل إلى الخلف، حيث نرى أو أرى فقط نصف وجهها. أنا أنظر إليهما أيضاً، وأراها وهي تحاول أن تبتلع ضحكتها. أو ربما لا. ربما هي تفعل شيئاً آخر، شيئاً لا أستطيع فهمه. لكن لا. الآن ينظران إلى بعضهما بعضاً ويضحكان بصوتٍ عالٍ. كانت فعلاً تحاول أن تتمالك نفسها من الضحك. "هل يا ترى يضحكان عليّ؟ أم ربما هو لم يكن ينظر إليّ؟"

سبب وجودي في المترو، هو رغبتي أو ربما حاجتي للذهاب إلى منزل حبيبي، دون سابق إنذار، لأفاجئه في حال كان يخونني. لكنّي الآن لا أفكّر بذلك. أنا الآن أتأمل انعكاسي على نافذة القطار. أحاول أن أكتشف لماذا يضحكان عليّ. أحاول أن أعرف لماذا أنا مثيرة للضحك. "هل السبب هو الحدبة التي على رقبتي؟ أم سمنتي المفرطة؟" لا أعرف. 

أخيراً أصل إلى وجهتي، سعيدة بانتهاء تلك الرحلة. أقف في وسط المحطة متسائلةً عن المخرج الصحيح. من المفترض ألّا أبحث عنه، لأنّي كنتُ هنا أكثر من مليون مرة. من المفترض أن أعرفه بشكل تلقائي. لكنّي أنسى. مثل الأمور الأخرى الكثيرة التي أنساها مؤخراً. أفكر قليلاً ومن ثم أجد المخرج. أحاول أن أتمالك نفسي، أو بالأحرى أصرخ على نفسي، مجدداً: "ماذا أفعل هنا؟ حبيبي أثبت لي أكثر من مليون مرة أنّه لا يكذب ولا يخونني". لكنّ الأفكار تعود: "ماذا لو كنتُ حمقاء؟ ماذا لو كنتُ ساذجة؟ ماذا لو أنّني لا أستطيع رؤية ما يوجد أمامي؟ ماذا لو كان فعلاً حقيراً وخبيثاً لدرجة أن يفعل كل ذلك، أن يأخذ تلك الفتاة إلى حمام القطار وأن يعبث معها هنالك وأنا هنا لا أراه؟ هل لأنّي مغفلة؟ هل يا ترى هو معها الآن؟ هل حصل شيء ما بينهما خلال المهرجان وكذب عليّ؟ هل أخذ رقمها؟" لكن لا. "ما هذا الذي أفعله؟ أنا أعرف ما هذا. عليّ أن أكفّ عن ذلك." 

لكنّ قدميّ تجرّانني إلى الأمام بشكل تلقائي. بدون تفكير. أجد نفسي خارج منزله. أتفقّد الحديقة والساحة الخلفية لأتأكد أولاً من عدم وجوده هنالك. ثم أقف أمام نافذته وأحاول الاتصال بهاتفه. أنادي عليه في نفس الوقت ليستيقظ في حال كان نائماً. يردّ على الهاتف ويسأل لماذا أنا هنا؟ أجيب بكذبة، كالعادة: "أتيت لأنّي كنتُ في اجتماع قريب من هنا وأردتُ أن أراك". أطلب منه أن يخرج. يفعل ذلك ونتوجّه نحو الحديقة. لا أعرف ماذا أقول. كان فعلاً نائماً ولم يكن معها. "قدمتُ لأنّي أردتُ الاعتذار عن غيرتي الشديدة أمس". أخبره بأنّه لم يُبدِ إلا اللطف معي وأنا بالمقابل تصرفتُ دون تفكير، كالعادة. لا يجيب. فقط يهزّ رأسه موافقاً على ما قلتُ. موافقاً على ماذا؟ ها أنا أعتذر مرة أخرى عن تصرفاتي المجنونة. كيف يجيب؟ لا أعرف. يبقى صامتاً. 

نصل إلى الحديقة ونجلس على المقعد ثم أقول له: "أظنّ أن سبب هذه التصرفات علاقتي السابقة التي تعرّضت فيها للخيانة والكذب والتخلي". أخبره بأنّي خائفة أنْ يتركني. أنّه سيجرحني. أنّه سيكذب عليّ. أنّه سيثبت أنّي محقّة. أن ما أمرّ به ليس نوبة. أنّ هذه هي الحقيقة. وهذا يعني أن كل مخاوفي حقيقية: أنّ أمي فعلاً تخطّط مع أختي لتعيداني من برلين؛ أنّ مديرتي فعلاً تخطّط مع زميلتي لطردي من العمل؛ أنّي فعلاً قبيحة؛ مثيرة للضحك؛ أنّ الشرطة تلاحقني؛ أن هناك مؤامرة من الحكومة الاسرائيلية ضدي؛ أنّ ذلك الشعور بالشلل في بعض الأحيان سببه أني فقدت حياتي حقاً. يؤكّد لي أنّه لم يحصل شيء معها، أنّه فعلاً عاكسها ولكن لم يحصل شيء. وعندها تعود المخاوف: "هل سيتركني؟ هل أصبحتُ ذاك الشخص المزعج، المهووس، المتطفّل، المتطلّب؟ هل أصبحتُ غير جديرة بالحب؟" أتخبّط مع هذه الأفكار التي لا أستطيع إخراجها، حتى على شكل مفردات. أبقيها بداخلي. "هل فعلاً سأطرح هذه الأسئلة عليه؟" لا أستطيع. 

ماذا لو جعلت الأسئلة هذه الأفكار حقيقية؟ ماذا لو من خلال طرحي للأسئلة سأتحوّل إلى ذاك الشخص المزعج، المهووس، المتطفّل، المتطّلب؟ أتساءل. لكنّي أعرف أنّي أفضل من ذلك الشخص. في مكان ما بداخلي، أعرف أنّ ذلك الشخص الآخر موجود. لكن المشكلة أنّي لا أستطيع إيجاده. ضائعة. لا أعرف ما عليّ أن أفعل. كيف أتصرف؟ كيف يجب أن تكون ردة فعلي؟ لأنّه ربما كانت ردة الفعل هذه على أمر غير واقعي؟ غير حقيقي؟ لا أعرف. "لكن ماذا لو تحقّقت مخاوفي؟ ماذا لو تحولتُ إلى شخص عاجز وباطل؟ ماذا لو لم استطع العودة إلى ما كنتُ عليه؟ لكن كيف كنتُ فعلاً؟ هل كنتُ دائماً هكذا؟ هل عشتُ كل حياتي هكذا؟" لا أعرف الإجابة. لأنّي لا أعرف من أنا. من كنتُ. من سأكون.

الصورة لشذى مصطفى
الصورة لشذى مصطفى

وهنالك أجد نفسي عالقة بين الحاضر والماضي والمستقبل. واقفة في مكانٍ ما. في لامكانٍ ما، متأملة جميع الاحتمالات. ماذا سيحصل؟ ماذا يحصل؟ ماذا حصل؟ أين أنا؟ في أيّ سيناريو أنا؟ لا أعرف الإجابة. أنا لستُ حتى قريبة منها. أخرج هاتفي. ربما عليّ أن أبتعد لفترة. أبحث عن تذاكر طائرة لزيارة صديق في ميلان، ثم أراسله متسائلة إن كان بإمكاني زيارته. يراني أراسل شخصاً ما ويناديني. "افتحي هاتفكِ. ماذا كنتِ تفعلين؟" "كنتُ أسأل صديقي في ميلان إن كان بإمكاني زيارته". ينظر إلى رسائلي ويتأكد من صحة ما قلتُ. عندها أسأله: "ماذا ظننتَ؟" يجيب: " أنّك تراسلين حبيبك السابق وأنّك تريدين العودة إليه". وعندها أدرك أنّي لستُ وحيدة. أنّ شخصاً آخر لديه المشاعر ذاتها، الأفكار ذاتها، المخاوف ذاتها. أتحقّق من هاتفه أيضاً، كما فعلتُ سابقاً، ولا أجد شيئاً، كالعادة. أفكّر عندها أنّ على غيرته أن تُشعرني بأنّيِ مرغوبة. محبوبة. بأنّ شخصاً خائف من فقداني. هذا الشخص الذي يسمح لي بتفقد هاتفه، بانتهاك خصوصيته، حتى تزول مخاوفي. لكن ذلك لا يحصل. أشعر فقط بالغباء لأنّي فقدتُ السيطرة مرة أخرى. لأنّي سمحتُ لتلك الأفكار بأن تتحكّم بي، بالرغم من معرفتي بأنّها غير حقيقية. 

لكن تلك الـ"ربما" تعود، وأتساءل مجدداً. ماذا لو كان قد حذف بعض الرسائل؟ ماذا لو أنّي مغفلة؟ ماذا لو كنتُ موجودة في علاقة، لا يجب أن أكون فيها. "ماذا لو؟". أحاول أن أفكر بعقلانية لأقضي على تلك المخاوف، لكنّي أجدها بالرغم من ذلك تعود لتحوم. ثم تبدأ الدوامة مرة أخرى. وعندها، أشعر بأنّي عالقة. في المنتصف. أنظر إلى جميع الاحتمالات التي تحيط بي، متسائلة إن كانت واقعية. حقيقية. وعندها يعود السؤال: "أين أنا؟ في أي احتمال؟" لا أعرف.

وأخيراً يعود بعض المنطق إليّ، وأقرّر أن أذهب إلى المنزل لأنام. أودّعه وأتّجه إلى منزلي. أجلس في المترو، وأرى الشخصين ذاتهما مجدداً، جالسين، يضحكان. بصوتٍ عالٍ. "لماذا يضحكان عليّ؟ لماذا أنا مثيرة للضحك؟" لكنّهما لا يعرفان. لا يعرفان أنّي سمنت بعد الأدوية التي وصفوها لي. وأنّ تلك الحدبة هي نتيجة الإرهاق الناتج عن تشخيص وراء تشخيص. ما يجهلانه، هو أنّي لا أعرف إن كانا فعلاً واقعيين. ما يجهلانه، هو أنّي أصحو كل يوم، متسائلة، نادمة، خائفة مما حصل، مما يحصل، مما سيحصل. لأنّي لا أعرف. ولأنّ لا أحد بإمكانه أن يخبرني. لأنّه لا يمكنني السؤال. أو لأنّه من الممكن أن يكذبوا عليّ. وهذا السؤال عن الحقيقة، عن الواقع، معي كل يوم، في كل لحظة، مع كل نفس. في اللحظة ذاتها، خليط الحب والكره والشك والرهاب. هما لا يعرفان ذلك. لا يعرفان أنّي هربتُ إلى برلين، لأجد عنواناً جعل مني مريضة. أم هل كنتُ هكذا طوال حياتي؟ لا أعرف. أنا لا أعرف.

 


هذا النص هو جزء من ملف عنوانه "برلين" أعدّته فيولا شفيق بالانجليزية لصحيفة المركز للفنون ويتناول تجربة كُتّاب وفنانين مع الهجرة إلى العاصمة الألمانية والكتابة فيها. تنشر مجلة فَمْ النسخة العربية لقصة شذى مصطفى.

Contributor
شذى مصطفى

شذى مصطفى كاتبة فلسطينية تتأرجح بين الواقع والخيال. "ما تركتُ خلفي"، هي روايتها الأولى.

 

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="line-height: 1.2; text-align: right important!; margin-top: 0pt; margin-bottom: 8pt;"><span style="font-size: 16pt; font-family: Arial; color: #000000; background-color: transparent; font-weight: 400; font-style: normal; font-variant-ligatures: normal; font-variant-caps: normal; font-variant-east-asian: normal; text-decoration: none; vertical-align: baseline; white-space: pre-wrap;">شذى مصطفى كاتبة فلسطينية تتأرجح بين الواقع والخيال. "ما تركتُ خلفي"، هي روايتها الأولى.</span></p>  

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.