RR

في انتــــظار من لا يأتي

 

قصة لعدنية شبلي

جدتي واسمها نوفا، توفيت في أواخر الثمانينات أعتقد. ولم يكن موتها بحدث ذي أهمية بالنسبة للعائلة. وصلني الخبر بينما كنت في المدرسة، وكان بمثابة استجابة إلهية لرجاء أخذتُ أردّدُه منذ سنوات وهو إنقاذي من واحدة على الأقل من تلك الظهيرات المدرسية التي لا تحصى، والمفعمة بملل يتكرّر بلا كلل كل يوم مع حلول الحصة الرابعة. وفي الحال اتجهت عائدة إلى البيت، حيث وجدت أبي جالسًا وحده في غرفة الجلوس. سألته إن كان قد عرف بخبر وفاة أمه فردّ بأنه يعرف، ولم أستطع كبح جماح فضولي فسألته إن كان حزينًا. ردّ برفع حاجبيه اللذين بقيا مشدودَيْن للحظات، قبل أن يعودا إلى موضعهما السابق، وهو ما كان يفعله كلّما ودّ مناورة تقديم ردّ ما. والدتي لم تكن بالبيت ولا أعرف إن كانت قد عرفت بالخبر، فربما كانت ستنضمّ إلى الجنازة، التي لا أعتقد أن عدد حضورها سيزيد كثيرًا عن العشرين. ربما اثنا عشر أو ثمانية.

عامّةً لم تكن جدتي تتحدث مع أحد، وعامّةً لم يكن أحد يتحدّث معها، كما أنها لم تكن تحب أحدًا ولا أعتقد أن أحدًا كان يحبها. حاولت أنا شخصيًا أن أمنحها بعض الحب والاهتمام، لكنني توقفت بعدما زجرتني ذات عصر ربيعي لطيف بنظرة طويلة باردة.

قبل أن تموت بيوم واحد، وكنت في طريقي إلى المدرسة، عرجت إلى بيت عمتي حتى أقول لها صباح الخير، فوجدت جدتي التي انتقلت للسكن معها قبل بضع سنوات وحدها هناك، جالسة كالعادة في غرفة الجلوس، فوق الأريكة ذاتها قبالة باب المدخل، في وضعية أقرب إلى الانتظار منها إلى السكينة. قلت لها صباح الخير، ولم تردّ. ومع أن الموقع الذي انتقته للجلوس أناط بها مسؤولية استقبال الزائرين والترحاب بهم، فإنّها باستقبالها هذا لي، أكّدت تمامًا أنها لا تمنح أدنى خراء بمقدمي ولا بمقدم كل الزائرين الذين رأيتها من قبل تصوِّب بصرها نحوهم بازدراء صامت.

خرجتُ وربما شيء من الحزن يرافقني.

قد أكون قد عفوت عنها بأنها لم تمنحني بعض النقود حينما كنت طفلة كما كانت تفعل كل جدات من أعرف من أطفال، بل وتنازلتُ حتى عن الأمل في أن تمنحني ولو قطعة صغيرة من الحلوى التي طالما انتظرتُها بترقّب كلما مدّت يدها إلى جيب ثوبها التي ما كانت لتخرج منه إلا منديلها القذر.

تخلّيت أيضًا عن الأمل في أن تحكي لي قصة كتلك التي تعرف كيف تحكيها الجدات فقط. ولكن ألا ترد على تحية الصباح التي أطلقها نحوها؟

إنما يمكن للمرء أن يحزن بأن تكون جدته أو جدتها بغيضة، مليئة بالكراهية إلى هذه الدرجة. ثم ماتت في اليوم التالي وكان آخر ما رأيته منها هو عينيها اللتين بلون الرماد مفتوحتين على اتساعهما، تنظران إليّ مباشرة، تدفعانني بقوة نحو باب المدخل كي أخرج في الحال.

بعد وفاتها بيومين ذهبت للمبيت عند عمتي حتى أؤنسها في وحدتها، بعد أن ماتت جدتي. كانتا تنامان في الغرفة نفسها، يفصل بين سريريهما طاولة صغيرة فقط. وقد خلدنا للنوم، عمتي في سريرها وأنا في سرير جدتي، الذي لم أكن لأجرؤ على الاقتراب منه حتى قبل يومين فقط.

وبينما واصلت العتمة تلتهم الغرفة، قالت عمتي فجأة بأنها حزينة على وفاة أمها. سألتها كيف، وجدّتي كانت تعاملها بفظاظة قاسية وهي بدورها لم تكن تعاملها بأحسن من ذلك، فردّت عمتي بأن القلب يضمر عكس ما يصدر. هراء بالطبع، غير أن صوتها الحزين كما لم أعهده من قبل، دفعني إلى السكوت وعدم التعليق. فجأة، ربما بتأثير سحر الاستلقاء فوق سريرها، طلبت من عمتي أن تحدثني عن جدتي.

وعن عمتي جاء بأن جدتي كانت في الماضي امرأة كريمة جميلة. وكان أول من وقع في أسر حبها ضابط في الجيش العثماني، لم تبادله الحب. ولوقت طويل بقي هذا الضابط يأتي لزيارة منطقة سكناها ليتفقّد أخبارها، خاصة بمن تزوجت هذه المرة، فقد تزوجت جدتي عدة مرات، ربما أربعاً، عدا أولئك الذين أحبوها عن بعد بصمت. أما هي، حسبما تقول عمتي، فلم تحب أيًا من الرجال، عدا زوجها الأخير، جدي حسن.

وكانت قد تزوجته رغم اعتراض ابنها البكر من زواج سابق، مع أن جدتي كانت تحب هذا الابن بشدة وكانت ستفعل أي شيء من أجله، ما عدا التخلى عن جدي حسن. وقد كان عمي هذا وجدي كثيًرا ما يتعاركان، لشدة غيرتهما الواحد من الثاني. بل ذات مرة سحب عمي بندقيته ليقتل جدي، لكن جدتي التي كانت أيضًا قوية جدًا، شدّتها منه وقالت بأنه إن مسّ حسن فستقتل هي نفسها. وقد جرى هذا الشجار أمام عمتي التي هي أيضًا كانت ممزقة بين حبها لنصف شقيقها وحبها لأبيها.

ومن أفعال الحب بجدتي بأنه ما إن كان جدي يغيب لمدة تزيد عن اليومين حتى تخرّ مكانها من ألم الشوق، ولا تتوقّف طيلة غيابه عن انتظاره والتغني به بقلب حزين. ثم حين يصلها من بعض الخيّالة وأخيرًا بأنهم رأوا جدي عائدًا إلى منطقة سكنانا، تهبّ من حزنها وتهرع لملاقاته في الطريق، حيث تأخذ تقبله في كل مكان وهي تنشد «يا حسن يا غايب، حبك زاد في قلب الحبايب». وكان جدي يضحك بزهو وبدلال بينما المارّة من حوله يتأملون بإعجاب هذا الحب الجارف الذي يجعل نوفا تقبّل قدميْ حسن على الملأ.

* * * 

تنشر مجلة فَمْ هذه القصّة ضمن سلسلة «الكتابة عبر الأجيال» التي تشمل فعاليات وحوارات ونصوص لكاتبات وباحثات ابتكرن أساليب سردية لاستعادة الذاكرة الجماعية والوقوف على ما نُبذ من إرث الماضي، فاجترحن مقاربات جديدة في فن التنقيب والسرد. انطلاقاً من أعمالهنّ الروائية والبحثية وسيرهنّ الذاتية، نسعى للإضاءة على أطوار من الكتابة تسائل صيغ السرد المهيمنة، فتعيد تخيّل الماضي. السلسة من تنظيم سارة مراد وريما رنتيسي وبرعاية كليّة الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية في بيروت.

وتضيف عمتي بعد الاستنكار، بأنها لطالما شعرت بالحرج من حب أمها لأبيها، والذي كان يصنع منها امرأة هشة وضعيفة. فجأة سألتُ عمتي عن جدي وماذا حدث له، فأنا لم أعرفه يومًا. متى مات؟

بعد تردد أجابت عمتي، «سنة 1948». كان ذلك بعد معركة الشجرة التي تصدى فيها المقاتلون، من بينهم جدي، لجماعات الهاجاناه الصهيونية. لكن حين لم تصل إمدادات جيش الإنقاذ، عادت الأخيرة وشنت هجومًا على منطقتنا، قتلت خلاله امرأة اسمها نمرة تكون ابنة أخ جدي حسن، وطفلها، وجدّي حسن؛ وجدّتي، التي ما برحت منذ ذلك الحين بانتظار عودته إلى الحياة، حتى تعود معه هي أيضًا إليها.

وتضيف عمتي بعد الاستنكار، بأنها لطالما شعرت بالحرج من حب أمها لأبيها، والذي كان يصنع منها امرأة هشة وضعيفة.

 

Nour Debian | Everything Will Be Taken Away, sown dots on found photograph (scanned and re-edited digitally), 10 x 20cm, 2024
Nour Debian | Everything Will Be Taken Away, sown dots on found photograph (scanned and re-edited digitally), 10 x 20cm, 2024
Contributor
عدنية شبلي

عدنية شبلي (فلسطين، 1974) كاتبة صدرت لها روايات ومسرحيات وقصص قصيرة ومقالات. حصلت روايتاها «مساس» و«كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» على جائزة القطان للكاتب الشاب في فلسطين. رُشحت روايتها الأخيرة «تفصيل ثانوي» إلى القائمة القصيرة لجائزة National Book Award عام 2020 وتم ترشيحها لجائزة Booker الدولية عام 2021. عملت شبلي في التدريس والأبحاث في جامعات أوروبية وفي جامعة بيرزيت، فلسطين.

Contributor
Nour Debian

Nour Debian is a multidisciplinary artist born and based in Beirut, Lebanon. Her work includes paintings, drawings, collages, sculptures and books. Using found objects and images, as well as personal belongings and handmade items, she draws inspiration from the space of home, notably the bedroom, to explore intimate themes such as nostalgia, shame, and sexual fantasies.

Share Post
Written by
No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.