RR

زينة الحلبي | كلمة المحرّرة

في شباط/ فبراير ٢٠٢٠، أي بعد أربعة أشهر على ١٧ تشرين، لم نكن في فريق تحرير مجلة فَمْ قادرين على استيعاب الأمل الذي كنّا قد اختبرناه في بدايات الثورة، والقلق الذي رافقنا لاحقاً. كنّا، أسوة بالجميع حولنا، نتأمّل انهيار الليرة فيما البلد ينكمش تدريجياً ويتلاشى. تجاه هذا المشهد، فضّلنا أخذ مسافة من القلق والخيبة والعمل على موضوع ظننّا آنذاك أنه سيكون هادئاً واعتيادياً، يدفعنا إلى القراءة والتفكير برويّة، فيما نحاول الحفاظ على ما تبقّى من حياتنا السابقة. وضعنا "الداء والدواء" عنواناً للعدد التاسع من المجلة، في حركة بريئة ستأخذ أبعاداً أخرى لاحقاً. 

بعد أسابيع على إطلاق موضوع العدد، كانت الجائحة. فعدنا نتعاطى القلق ونشهد على ضيق الحياة أمام أعيننا: قوى الأمن التي كانت تؤدّب المتظاهرين في زمن الثورة صارت تؤدّبهم في زمن الجائحة. عدنا، مرغمين هذه المرّة، إلى المنطق الأمني الذي يسمح ويمنع ويضبط حركتنا وعلاقاتنا. ولم تفتنا المفارقة بأنّ مجلة فَمْ أخذت تطوِّر قسمها العربي على إيقاع حدث تاريخي آخر يدفعنا نحو الضيق والانكماش. عرفنا أنّنا، وإن قرّرنا الابتعاد عن الحدث، فإنّ الحدث آتٍ إلينا على شكل ترجمات ونصوص نقدية ونثرية وشعرية وفنية. فتوالت الموادّ عن الأرق والألم والهلوسة، وأخرى عن السلطة الكامنة في المؤسسات الصحية والعنف المضمَر في منطق التصنيفات الطبية.

تتحدّث بياتريس مورلاكي في "تقلّب" و"ابتسام" عن الالتحام مع الذات والآخر وألم الانفصال والقلق الذي يجتاحنا لحظة الفقدان. وعن آلام الليل ترسم عود نصر في "ترامادول سكايز" لترصد بصرياً وانفعالياً كيف يتسلّل الترامادول إلى الدم فيقضي على آلام الجسد ويطلق العنان للفانتازيا التي تعود وتظهر في ترجمتي لـ"أرق"، لبيدرو مارتي مونيوز. أنقل الأرق كما يراه آرِق تلوّع من اليقظة، فراح يتأمّل سكّيناً مسنوناً ويهلوس في قدرة السكين على تحريره من نفسه. إيلام الذات حاضرٌ أيضاً في رسومات جويس عبّو التي ترى في الألم الذي نسبّبه لذاتنا ممارسةً في البحث عن المُقرِف والمنبوذ داخلنا، نعبث بالحدود بين الحياة والموت فنعي أنّنا لا نزال أحياء.

تتحرّك الأمراض في مساحات الجسد لكن أيضاً في مساحات منطقها الاجتماعي، وترسم خطاً فاصلاً بين الداخل والخارج، النظيف والموبوء، المريض والمشفي. ولكن هناك من يعبث بهذه الخطوط ويتحايل عليها، فيكشف عن عبثيتها وفراغها. بَن كوربر يعرف كيف يفعل ذلك جيدًا بتناوله مفهوم التطفيل في "رسالة في الطفيليين والطفيليات"، وذلك من خلال ربطه بين تصوّر الخطيب البغدادي للطفيليين الآتي إلينا من القرن الحادي عشر، ومفهوم الفيلسوف الفرنسي ميشال سير عن الطفيلية كما تتمثّل في مجموعات هامشية طارئة تدخل إلى نظام فتربكه وتقلب معناه، كما الطفيليات التي تسكن الجسد البشري. يتناول كوربر الثنائي الشهير مشيل وطارق صلاحي اللذين دخلا، متطفّلَين طبعاً، حفلاً رسمياً يرعاه باراك أوباما، فقاما، كالطفيليات، بفضح "مناعة" نظام كان قد توهّم قوّته. لكن لبن كوربر يد في الكتابة الإبداعية ويد أخرى في الترجمة الإبداعية. فقد تجرّأ كوربر على المستحيل، أي تعريب نص مؤسّس لروائية الفنتازيا والمستقبلية أورسولا لي جوين (أو كما يحبّ كوربر أن يسميها، "أرسولة الجن")، فنقله لنا في "العودة إلى الوطن دائماً أو نزهة الإمتاع وثمرة الاضطلاع في العادات والتقاليد والأوضاع، هناك في وادي الناع". فنشهد على كوربر وهو يعرّب نصاً جاء إلينا من المستقبل، حاملاً لنا حواراً بين أفراد مجهولي الهوية القومية واللغوية والجندرية، يناقشون ماذا يفعلون بمرضاهم، منقسمين بين خياري النفي والاحتضان.

نعرف جيداً أنّ تصنيف الأمراض وتسميتها وإدارتها هي ممارسة في السلطة. فالمؤسسات التي تحجر وتداوي وتشفي قد تكون نفسها التي تعتقل وتسمّم وتُمرض. تقدّم لنا لمى الشريف في كولاجها "احذر التفشّي" تصنيفات مرضية خارجة عن المعايير الاعتيادية، فتضع فيتيش التصنيف في وجه المصنّفين أنفسهم، وتُرينا كيف أننّا إذا ما تمعّنّا جيّداً في بعض الممارسات الذكورية والأبوية والقعمية، سنراها تحاكي منطق الوسواس القهري والعصاب الجماعي. هذا هو المنطق نفسه الذي تتناوله أيضاً لميا مغنية حين تتحدّث في "أمراضٌ من غبار: حَجْرُ النساء وكمامة التاريخ" عن تشابك العدوى البيولوجية للجائحة مع البنية الاجتماعية، وعن مؤسسات صحية سلطوية تحجر الآخر الذي يُرعبنا اختلافه. ولكن لا تلبث تلك الكائنات المحجورة أن تطارد من يبحث عنها، فتسكنه وتكشف هشاشته وحدود معرفته. تحضر السلطة أيضاً في "درس التشريح" لجولان حاجي الذي يستذكر كلية الطب في سوريا التي تعلّم الطلاب كيفية السيطرة على الجسد البعثي، فيواجهها طلاب من الأطراف بدرس في التشريح من نوع آخر، يشرّحون فيه أسماء القابعين في السلطة، فيعيدون تسميتهم ساخرين منهم ونازعين عنهم، ولو مؤقتاً، قدرتهم على العنف. 

يصدر العدد التاسع من مجلة فَمْ في زمن الجائحة والانهيار والانفجار، ولكنه يعود ليسلّط الضوء على الجسد الذي تتصارع فيه وعليه سكاكين كثيرة.

Post Tags
Share Post
Written by

Rima Rantisi teaches in the Department of English at the American University of Beirut and is the founding editor of <i>Rusted Radishes: Beirut Literary and Art Journal</i>. Her essays can be found in the<i> New England Review</i>, <i>Literary Hub</i>, <i>Assay: A Journal of Nonfiction Studies, Sweet: A Literary Confection</i>, <i>Past Ten</i>, and <i>Slag Glass City</i>. She holds an MFA in Creative Nonfiction from the Vermont College of Fine Arts.

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.