RR

العمل اغتراباً والركود تخريباً

يتناول العدد الحادي عشر من مجلة فَمْ ثيمة العمل والركود: كيف يتواجه المفهومان وكيف يتناقضان ويتكاملان؟ كيف نتخيّل العمل في عالم شهد مؤخّراً تحوّلاً جذرياً في مفهوم العمل وشروط ممارسته؟ وعلى المقلب الآخر، كيف ننظر إلى الركود، إلى الوقت المستقطع من العمل، وتشعّباته كالسكون والتراخي والخمول والكسل؟

تضيف مساهمات هذا العدد على هذه الأسئلة، فتتطرّق إلى السؤال الأزلي حول العمالة المهاجرة وقضية الاغتراب. «وحدها الأنفاق التي نحفرها توصلنا إلى حيث نريد / أو تعيدنا إلى بطن الأرض»، يكتب صلاح باديس في قصائده عن العمال المهاجرين إلى أوروبا، والدوامة السيزيفية التي تبدأ من لحظة اغترابهم عن بلادهم وتستمّر مع انسلاخهم عن عملهم وعن أنفسهم معاً، وكأن لا خيار للعمال المهاجرين إلا التنقّل في حقل معجمي فيه غرب، وتغريب، واغتراب. يعود اغتراب العامل في قصة هالة عثمان التي تسرد فيها يوميات عامل بناء مصري في الأردن، من خلال عذابات جسده كيف أن العمل في الحجارة مشروط بالألم، وكيف أن أوجاع الظهر والعظام رفيقة العامل المصري المهاجر ودليل توحّده مع الحجر منذ الأزل. يستعيد جولان حاجي ترافقه رسومات غيلان الصفدي، موقع المراقب البعيد-القريب الذي يرصد حركة المهاجرين من عمال مياومين وعمال توصيل وبناء في بيروت التي يتكثّف فيها العنف، «لا وقت لديكم لتحزنوا، لأن حياتكم هي الحزن بحد ذاته، وأنتم تحتالون عليه بالصبر، بقوة الذراع»، يكتب حاجي. 

تعود ذاكرة العامل مع الاغتراب والألم في قصة سارة أبو غزال التي تسرد راويتها تعثّرها في البحث عن عمل، فيما تتسلّل إلى سردها ذاكرة جمعية من القتل الجماعي. تنقّب بكرية مواسي في ذاكرة تبدو وكأنها متوارثة، فتتناول الاغتراب عن العمل في ظل العوائق القانونية والجغرافية التي تحدّ من حركة العاملة الفلسطينية التي تنسلخ عن محيطها وتتحايل على صحتها النفسية كي تتمكّن من الانتقال بجسدها عبر المعابر. ومن تلك الحدود المفروضة بالعنف، يكتب عبد الجواد عمر عن اغتراب الفلسطينيين عن عملهم، هم الذين فهموا أن لا ترقّي تحت آلة الاحتلال، فيبدو العمل الثوري أكثر الممارسات قدرة على تحرير الفرد والجماعة معاً. تتناول المساهمات السردية والشعرية هذه مثلّث العمل والهجرة والاغتراب عن محيط العامل وأحياناً داخل محيطه، إلا أن في العدد أيضاً مساهمات تسائل أشكالاً من الأعمال غير المرئية، والتي تفرض لغتها وقوانينها الخاصة.

تصف مي المغربي في قصائدها اللذة التي تنتابها لدى مراقبة الآخرين يعملون، فتصوّر العمل البيروقراطي وكأنه طقس من طقوس التعذيب، وعمل النساء في المنزل غير المرئي كطقس من طقوس التطهّر. تتناول قصة ملك عفونة مفهوم العمل غير المرئي من خلال النظر إلى النساء العاملات في تحضير المونة، والمشرّدات اللواتي يبدعن فناً في الشارع، والأخريات اللواتي يكدحن في مجال العناية العاطفية، أي العمل المستتر والمخفي الذي يحمل وزر العناية بالعلاقات الإنسانية. تعود لينا غيبة إلى العناية العاطفية في قصتها المصورة التي تتساءل فيها كيف يمكن للحب أن يكون ممارسة دؤوبة لتذويب أوجاع الآخر الذي نحبّ، كما القلق الذي يشلّه.

في العدد مساهمات عن العمل الإبداعي وأهمية قراءته في سياقه المادي المتحوّل. يؤرّخ علي العدوي في مقالته النقدية لاستقلالية الفن، مفهوماً وممارسةً، في ظلّ الإنتاج المكثف وامتداد الثقافة الاستهلاكية وتراكم الأرباح في القرن العشرين. يتوقّف العدوي عند الفن الذي لم يعد قائماً، كما كان تاريخياً، على دعوة متسامية للتباطؤ والتأمل، بل أصبح في ظل النظام النيوليبرالي الحالي، مجالاً للاستثمار والتراكم الرأسمالي، وسبيلاً لتوسيع الأسواق الرأسمالية الاستعمارية. ينظر نائل الطوخي للعمل الإبداعي من منظور مغاير تماماً، أي من باب التساؤل عن علاقة العامل في المجال الإبداعي بمنتجه الإبداعي، عن صعوبة الفصل، لا بل استحالة الفصل بين المبدع ومنتجه، وإن كان هذا المنتج ليس إلا ملف وورد، لا سحر له ولا هالة.

إن كان في العمل غربة واغتراب واستتار واستغلال، ففي الركود سكون وهدوء وتقويض للعمل. تنطلق منى كريم في قصيدتها من لحظة الركود الجمعية والفردية التي رافقت الجائحة، فتبحث عن معنى العمل من خلال العناية بالجسد بالرغم من الأسئلة التي تجتاحها حول جدوى تلك العناية. ترى الشاعرة في لحظة الركود فرصة للغوص في الذات والتفكير بآليات الأبداع كيف نكتب شعراً، وبأي لغة نبدع، ولمن نكتب ونحن نحدّق في الكارثة التي تتجلّى أمامنا يومياً.

قد يكون الخمول، أو الانسحاب الطوعي من ممارسة عمل مرتبط بآليات القمع أداةً للمقاومة. «وانت هتعمل إيه بحياتك غير إنك هتعيش مبضون؟»، يتساءل راوي حسين فوزي المنسحب من حياته، ذلك «البدين» الذي يتأرجح بين أحلام فيها رغبة وعالم يقظ يطالبه بالأداء أداء الطالب المتفوق، أداء الحفيد المرضي فيصبح الخمول مقاومة للأدوار المفروضة عليه. تعود فاطمة مصطفى إلى الخمول كممارسة في مقاومة الأدوار الجندرية النمطية وكنوع من التماهي مع ذاكرة من العنف الشخصي والجمعي التي تشلّ من قدرة راويتها على العمل. على نقيض النهب البنيوي الذي تحرسه الأنظمة الحاكمة، يظهر السطو والنهب والغش في قصة محمد صلاح المصورة كممارسة تقويضية تضحك في قدرتها على فضح سخف السلطة وتراكم رأس مالها.

إن كان الركود والخمول من استراتيجيات مقاومة السلطة والأدوار النمطية، فإنهما يبرزان في قصة هيكل الحزقي كممارسة في مقاومة الاستعمار الفرنسي. في قصته عن علاقة العمال التونسيين التاريخية بتحضير الشاي والتأنّي بشربه كمرادف للتقاعس عن العمل وعدم إتقانه، يظهر الحزقي كيف أن تلك الممارسة تندرج ضمن النضال الوطني ضد الفرنسيين ووسيلة لمقاومة نمط الإنتاج الاستعماري، أو أقله التلذذ بتخريبه.

تسائل تلك النصوص النثرية والنقدية والفنية والشعرية تصوّرنا التقليدي للعمل والركود. فالركود ليس نقيضاً للعمل، بل فعل مقاومة للممارسات السلطوية والأدوار النمطية المفروضة؛ كما أن العمل يتجلّى في تلك النصوص متخفّفاً من الهالة الأخلاقية والرومانسية التي لطالما رافقته. في نهاية المطاف، يبدو الركود والعمل وكأنهما وجهان لسلطة واحدة.

Contributor
زينة الحلبي

زينة الحلبي، أكاديمية وكاتبة تهتمّ بالثقافة العربية المعاصرة. صدر لها كتاب عن تمثيل المثقّف في الأدب والسينما منذ تسعينات القرن الماضي. عملت أستاذة جامعية في الولايات المتّحدة والجامعة الأميركية في بيروت وتحرّر حالياً القسم العربي من فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية. لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right;"><span id="docs-internal-guid-da9d4cd8-7fff-7f68-f066-a0356fc86bc4" style="font-size: 14pt;">زينة الحلبي، أكاديمية وكاتبة تهتمّ بالثقافة العربية المعاصرة. صدر لها <a href="https://edinburghuniversitypress.com/zeina-g-halabi">كتاب</a> عن تمثيل المثقّف في الأدب والسينما منذ تسعينات القرن الماضي. عملت أستاذة جامعية في الولايات المتّحدة والجامعة الأميركية في بيروت وتحرّر حالياً القسم العربي من <a href="https://www.rustedradishes.com/about/team/">فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية</a>. لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.</span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.