RR

يوم آخر في الرباط

المرتبة الثانية

"الرباط" by Sarah Al Adayleh

يجلسون بهدوء في سياراتهم الضخمة والمكيفة، عند إشارة المرور يرفعون أعينهم الصافية وينظرون الينا بخجل من خلال زجاج نافذة الحافلة الكبير، لا يطيلون النظر في وجوهنا الكئيبة، منظرنا يرعبهم، ليس شفقة علينا لكن لأنهم يتخيلون أنفسهم في مكاننا، زحام وروائح ووجوه قبيحة، الوضع مرعب. 

يراقبوننا وأراقبهم، هناك دائما خلل في هيأتهم، الأغنياء كلهم تقريباً من ذوي الاحتياجات الخاصة. أحاول أن أتجاهل مَن هم داخل الحافلة، لا شيء يستحق أن تراقبه هنا، نظرات النساء الواقفات تخترقني. كلب غير مؤدّب، يجلس ونحن واقفات. العدل يبدأ من هنا أيها اللعينات، لن أترك مكاني المريح لأقف تحت إبط أحدهم ليقال عني إنني حسن التربية، تباً لكنّ وتباً لي! ماذا أفعل هنا بحق الجحيم. 

وصلنا الرباط، آآخ، يوم آخر في الرباط، أعرف جيداً ما يعنيه أن تعيش في مدينة كهذه، رائحة البول والخيانة تفوح من سورها الطويل، رائحة نتنة لا تليق بمدينة سمّيت غصباً الرباط العاصمة. الخونة يعيثون فيها فساداً، يجلسون في المكاتب والحانات ويشربون دم بعضهم بعضاً ويتبادلون الابتسامات البلهاء والتهديدات. 

الخنافس الآدمية تسير في شوارعها دون وجهة، لا أحد يهتمّ لأمرهم سوى تلك البراغيث العالقة في مؤخّرة سراويلهم، كثيرون يعتقدون أنها مدينة الأحلام، مدينة الرخاء والغنى، هذا صحيح، لكن في جزء صغير منها فقط، الجزء الذي ينام فيه السلطان ورعيّته. أما البقية ورعيتها، ففي المجاري. 

أوّل ما يمكن رؤيته هو ذلك السور الكبير الذي يخفي المدينة. من المفترض أنه هناك لحماية سكان المدينة، لكنه في الحقيقة مجرد مرحاض عمومي كبير، يتبوّل تحته الغرباء والسكارى، ويتحوّل أحيانا إلى وكر للدعارة يطفئ فيه العشاق الفقراء نيران الشهوة التي تكويهم.

دخلتُ من أحد أبوابه الكثيرة، دخنت سيجارة بالقرب من محطة القطار، قبّة البرلمان تستقبلني بابتسامة ساخرة، مبنى تافه يتوسّط الرباط، المبنى الذي تقتل فيه أحلامنا، بعد تعذيبها طبعاً. بالقرب منه قاموا ببناء متحف محمد السادس، كل المباني تقريباً تسمّى بأسماء الملوك. لم يسبق أن سمعت أن مبنىً ما او شارعاً أو أيّاً كان سمّي باسم با عمر بائع السجائر بالتقسيط، أو باسم مي نعيمة بائعة النعناع، بالرغم من أنهما يستحقّان ذلك. 

من السخرية أن يبنوا لنا متحفاً في مدينة تجهض فيها أحلامنا علناً، ما حاجتنا للفن إن كنا لا ندري ما هو الفن أوّل الأمر. نحن في مدينة يعلو فيها الخبز على الفن. على أي حال، قد نحتاج هذا المتحف في مرحلة ما. أدرت ظهري للقبة وللمتحف واتجهت نحو مقهى لومبير، عبرت شارع محمد الخامس، مروراً بمسرح محمد الخامس، لطالما تساءلت مستهزئاً: لماذا لم يأخذ محمد الخامس هذا الشارع النظيف إلى القمر معه، لا بدّ أنّه يشتاق إلى الرباط حيث سمّيت معظم المباني والشوارع باسمه. 

وصلت المقهى، مقهى لطيف وهادئ وربما هو أقدم مقهى في الرباط، دقائق فقط واكتشفت أن هناك سيدة في الركن تراقبني، تنظر إليّ بشكل غريب، تستمني عليّ بعينيها المتعبتَيْن، ابتسمتُ لها وغيّرتْ من جلستها، سيّدة أربعينية ترتدي تنورة وكعباً عالياً أحمر، أشعلتْ سيجارة واستمرت في النظر إليّ، أشعلتُ سيجارة بدوري وقرّرتُ أن أفعل الشيء نفسه، تبادلنا النظرات لوقت طويل، سخرت من الفكرة ولويت عنقي نحو الشارع. بالكاد تستطيع أن ترى شيئاً وسط كل تلك المؤخرات، كأننا في مسابقة صاحبة أفضل كيس خراء في الرباط، الأمر مثير للشفقة أكثر مما هو مزعج. الحيوانات المنوية تبيع الكمامات، الأقزام يصرخون انتقاماً من أمر ما، أشباه الرجال يتسلّقون المؤخرات بلذّة، المخزن المجرم يوقف أصحاب الدراجات النارية، موكب من البغال يرتدون الملابس نفسها ويرمون الأوراق في الرصيف، حملة انتخابية يقولون، وما هي في الحقيقة سوى مسرحية حقيرة تنتهي بشارع متّسخ. الشارع مقرف، الرباط مقرفة، لا شك أن كل شخص تصادفه هنا مذنب بطريقة ما، أشرار وملاعين.

غادرت المقهى وفكرت في زيارة المقبرة. كان لي صديق يعيش هناك، ربما سمح لتلك الأرض بأن تبتلعه أخيراً، ربما ما زال يحدّث الأموات ويغنّي لهم. كنا نغنّي لهم معاً أغاني أزنافور وهامبيردينغ وعبد الحليم، لكنهم ملاعين لا يصفقون لنا، نغضب ونتبول عليهم! يطردنا الحارس، ونتجوّل في شوارع الرباط الباردة. يحدثني عن زوجته وابنته، عن حلمه الوحيد، كان يحلم ببيت صغير وحديقة صغيرة مليئة بالفراشات، يحبّ الفراشات كثيراً لكنّه يقتلها، يقول إنها لا تستحق العيش في مكان كهذا، مكانها في الجنة. لهذا يفقد صوابه كلما لمح فراشة، يجري خلفها حتى يقتلها ويعتذر.  

كان لا بدّ أن أمرّ من أكثر مناطق الرباط اكتظاظاً لأصل إلى هناك، المدينة القديمة، تبدأ من باب الحد وصولاً إلى البحر، هناك ستجد كل ما تبحث عنه، فنادق رخيصة، طعام رخيص. منازل قديمة ملتصقة ببعضها بعضاً وأزقّة ضيّقة، لكنها حيوية، هنا يباع كل شيء ويشترى كل شيء. يحلو لي أن أتجول في أزقتها وأركل القطط اللعينة، أمشي ببطء الى أن أصل إلى الوداية، سور آخر طويل يطل على البحر، داخل السور حديقة صغيرة ومقهى لطيف، كل السياح الذين قاموا بزيارة الرباط، قد شربوا الشاي بالنعناع في هذا المقهى. 

البحر من هنا يبدو لطيفاً، لكنني لا أحبه، مجرد بركة مياه كبيرة، لا شيء يستحق أن تنظر إليه. اتجهت نحو المقبرة، يفصلها عن البحر شارع، الأموات في جهة يسبحون في الفراغ، والأحياء في الجهة الأخرى يسبحون في الهموم. كنت أحمل كتاب سيوران، لا أعرف سيوران ولا يعرفني، كل ما أعرفه أننا نحن الإثنين مخلوقات بشعة وفظيعة. دخلت المقبرة، تذكرت أمي، كنا هنا معاً في آخر مرة زرت المقبرة، كانت تهمس شيئاً للأموات وأنا كنت أدخن. جلست بجانبي تتذمّر من رائحة السجائر، تحدثنا عن الموت، اكتشفت أنها لا تخاف من الموت، عكسي أنا وسيوران، جبانان، حاولت أن أمزح معها وقلت: ماذا ستفعلين لو أنني رميت نفسي في ذلك البحر؟ لم تنزعج وردّت المزحة بمثلها وقالت: ستسهل علينا أمر دفنك ليس إلا. ابتسمت كصبي تافه، وتلا ذلك صمت لطيف سرعان ما كسرتْه: ماذا ستفعل أنت لو رميت نفسي في تلك البركة؟ فكرت في الأمر لوهلة لكنني لم أجد جواباً. غيّرت الموضوع وحدّثتها عن روايتي الجديدة يتيم الرباط، أخبرتها أنني قضيت الكثير من الوقت في هذه المقبرة بسبب ذلك، خاب ظنّها، لم تهتمّ، ولوَتْ عنقها نحو البحر تتأمّله.

فتحت كتاب سيوران، سيوران فهم الأمر حين قال: لماذا ننسحب ونغادر اللعبة، ما دام في وسعنا أن نخيب ظنّ المزيد من الكائنات؟ يبدو أنني لا أجيد سوى ذلك، فقد خيّبتُ ظنّ الجميع تقريباً، الله أوّلاً ثم باقي الكائنات. حتّى مدينتي خيّبتُ ظنّها، ولم أعرف إنساناً أو حيواناً إلا وخيّبت ظنّه. من الأفضل لي أن أبقى هنا إلى الأبد، قريباً من أمّي.

كلمة من لجنة تحكيم الجائزة:

الرباط المدينة الحديثة ذات المباني الشاهقة والسيارات الفاخرة، يتوه بطل الرواية بين شوارعها. فهنا البرلمان وذاك المتحف الجديد. لا إنتماء لبطلنا بينهما فتستدرجه المقبرة وثم البحر حيث تراوده ومن معه الأفكار المظلمة. يسرد لنا رشيد بن عدي قصة شاب يافع قليل الأمل وعديم المهنة يسكن في زوايا المدينة تسوده نظرة عدمية بإتجاه الحياة. ينتقي كاتبنا الرموز لتعبر عن اليأس الذي يحتضنه بطل القصة ليستوعب مآسي الحياة التي يعيشها. تبدو القصة في البداية وكأنها انتقاد لمدينة تتغاضى عن سكانها المنسيون، إلا أنها تطرح أيضًا فكرة ما يدين به السكان لمدينتهم. في القصة تصويرًا ديستوبيا للمدينة وهي تتأرجح بين الإهمال والفساد والفروقات الطبقية النافرة، فيما يطوف فيها راوٍ يغازل فكرة الموت.

جائزة بارجيل مدن هي مسابقة دولية تدعو الكتّاب لعرض مدينة في العالم العربي يعرفونها عن كثب في صورة روائية. تهدف المسابقة إلى إنتاج قصص قصيرة وروايات تعكس الروح الحضرية للمدن والأحياء والمباني في المنطقة.

Contributor
رشيد بن عدّي

رشيد بن عدّي كاتب مغربي من مواليد سنة ١٩٨٩. درس التاريخ والحضارة في الجامعة قبل أن يتخصّص في الرواية والقصة القصيرة. صدرت له رواية "الهروب" (٢٠١٧) والمجموعة القصصية "بؤس وغضب" (٢٠٢١).

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right important!;"><span id="docs-internal-guid-786ba43b-7fff-5aa4-72d4-eb5be8e7aed0"><strong>رشيد بن عدّي</strong> كاتب مغربي من مواليد سنة ١٩٨٩. درس التاريخ والحضارة في الجامعة قبل أن يتخصّص في الرواية والقصة القصيرة. صدرت له رواية "الهروب" (٢٠١٧) والمجموعة القصصية "بؤس وغضب" (٢٠٢١).</span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.