RR

مَنث بيبول مصري مجتهد

يقع مكتب المهندس جورج في أحد شوارع مصر الجديدة الكبرى. من النافذة العريضة رأيت السيارات تمضي بسرعة في الشارع الواسع، وبدا لي المنظر مبهراً على الرغم من أنني قدت سيارتي ومشيت في الشارع نفسه مرات عديدة. ربما اختلاف زاوية النظر يدفع الواحد الى مشاعر جديدة.

حينها كنت مهندساً مدنياً حديث التخرج وذا خبرة قليلة للغاية، لكني كنت قد تعلّمت العمل على عدة برامج كمبيوتر تُسهّل التصميم الهندسي وتخرّج نتائج أكثر دقة من طرق التصميم "اليدوية". طلبني المهندس جورج خصيصاً لأقوم بعمل التحليل والتصميم الإنشائي لسقف مطار صغير كان قد صمّمه منذ شهور. كان أيضاً قد اتّفق مع مهندس إنشائي لتصميم كل عناصر المطار، لكن المهندس وضع تصميماً إنشائياً للسقف مكلفاً للغاية، وكان سبب ذلك اتساع السقف واتباع المهندس لطريقة قديمة للتحليل الإنشائي. فبدا للمهندس جورج أنّي الشخص المثالي لتحليل وتصميم ذلك السقف.

أدخلني جورج إلى غرفة مكتبه، واسعة بلا مكتب أو خزانات، بل مساند ووسائد على الأرض الخشب، وأوراق ملقاة بإهمال هنا وهناك، ورزمة سميكة من الورق الأبيض ملقاة على الأرض، بمقاس نسميه A0، وهو أكبر مقاس قد يجده الواحد في المكتبات. حالما دخل جورج، قعد على الأرض أمام رزمة الورق وقال بسرعة: "إديني خمس دقايق"، ثم أمسك قلماً سميكاً وأضاف خطوطاً ومنحنيات للوحة الموضوعة على الأرض أمامه، ويبدو أنه ملّ بعد دقائق فقلب اللوحة بهدوء مغتاظ وبدأ "الشخبطة" على اللوحة التالية، ولا بد أنه ملّ أو أنه وجد ما رسمه غير مقبول أيضاً، فقلب اللوحة وأخذ يملأ ما بعدها برسومات صغيرة لتفاصيل معمارية خاصة بالسلالم. بالطبع لم أسأله عمّا يفعل، فقط تابعت بصمت حركة القلم المحمومة على اللوحة. بدا لي أنه يستعيد تفاصيل سلالم درسها أو صمّمها؛ يفعل ذلك كي يحلّ مشكلة ما في مبنى لم يُصمَّم بعد. بعد سنوات سأفهم أن تصميم السلم قد يكون صعباً، لكنه بالتأكيد لا يحتاج كل هذا الاستغراق في التفاصيل.

بعد نصف ساعة وضع جورج القلم جانباً واعتذر ببساطة عن انشغاله، ثم أخذ يحدّثني عن المطار الصغير وسألني أسئلة قليلة عن البرنامج الذي أعمل به لتحليل السقف إنشائياً. سألني أيضاً عن طريقة التصميم، وعن مدى التوفير في حديد التسليح الذي أتوقّعه، وعندما قلت له إن التوفير لن يزيد عن 15%، ابتسم ابتسامة خفيفة وقال: "موافق، تشرب بيرة؟"

غاب خارج الغرفة لدقائق ثم عاد وهو يدفع عربة صغيرة، مطابقة تماماً للعربة ذات السطحين التي كنت أراها في أفلام الثمانينات. لم أعرف أبداً إنْ قصَد جورج أن يستعيد لحظة دخول الكحول إلى الضيوف كما في تلك الأفلام، أم أنه رجل عمليّ ولا يريد أن يتحرّك بين المطبخ والمكتب عدة مرات كي ينقل كل الأطباق. لدهشتي، امتلأ سطحا العربة بأطباق عديدة، وزجاجات بيرة قليلة، وزجاجة ويسكي وكأسين. خلال دقائق كان السيد المهندس جورج قد رصّ الأطباق كلها على طاولة منخفضة، وناولني زجاجة بيرة وقال: "في صحتك". كان ذلك هو المشهد المبهر الثاني في تلك الليلة؛ غرفة المكتب معتمة قليلاً، أكثر من ثلاثين طبقاً صغيراً جداً كلها تحوي مازات متنوعة، صوت التكييف الهادئ في الخلفية، والبرودة التي يدفعها داخل الغرفة تريح جسدي وتذكّرني بحرّ أغسطس ورطوبته خارج الشقة.

تشعّب الحديث كثيراً حتى وصلنا إلى المال. عندما أخبرت المهندس جورج بأني تخرّجت منذ عام فقط، وبأني أعمل في مكتب استشاري بالساعة، وبأني أصمّم مباني صغيرة لزيادة دخلي وخبرتي، قال لي إني حتى لم أصل إلى مرحلة الـ"مَنث بيبول". نطق الكلمتين بشكل صحيح تماماً، وعندما صَمتُّ في انتظار توضيحه، تابع: "الناس مقسومين إلى تلات أقسام؛ مَنث بيبول، يير بيبول، لايف بيبول. إنت لسه ما وصلتش للمَنث بيبول، شدّ حيلك".

وضّح لي أنه ابتدع هذا التقسيم ليريح نفسه من عناء محاولة فهم مَن يحيطون به، والتقسيم ليس مقياساً لأي شيء سوى طريقة تعامله مع الآخرين. المَنث بيبول هم الأشخاص الذين يعملون في وظيفة مستقرة ويتلقون في آخر الشهر مرتباً ثابتاً، في المعتاد يكفيهم هذا المرتب لمدة شهر فحسب، وعليهم أن يستمروا في العمل كي يستمروا في الحياة. بعد مدة قد يتحسّن الوضع ببعضهم، وبدلاً من الوظيفة ذات المرتب، يتغير نمط العمل إلى العمل الحر، حيث يظلّ الواحد يعمل بلا دخل شهري ثابت معتمداً على ما ادّخره، إلى أن يأتي موعد دفعة مالية كبيرة تُضاف إلى حسابه البنكي، عادة تكون الدفعة سنوية وتكفيه لأكثر من عام. يستمرّ الواحد من هؤلاء في العمل بهذه الطريقة عاماً بعد عام، لا يحتاج إلى الاستمرار في العمل يوماً بعد يوم مثل المَنث بيبول، لكنه لا يزال بحاجة إليه.

قد يتغير حال البعض ليصبحوا لايف بيبول، هؤلاء يملكون ما يكفي من المال ليعيشوا بلا عمل، قد يكونوا لايف بيبول منذ الصغر، قد يصبحون كذلك لأنهم ورثوا الكثير، وقد يصبحون كذلك لكسب مفاجئ أو سريع، أو حتى كسب بطيء ثابت على مدار سنوات عديدة.

المهندس جورج لايف بيبول منذ صغره. نشأ في عائلة غنية بمقاييس زمنه، وتخرّج في كلية الهندسة وبدأ العمل فور تخرجه، في عام 1983. ومع قرب نهاية أول "مقاولة" كبيرة ينفّذها، اكتشف أنّ مكسبه من تلك المقاولة سيتضاعف تقريبا ثلاثين مرة، قال لي: "أنا اتولدت لايف بيبول، ولما اكتشفت المكسب المفاجئ دا فهمت معنى جديد للايف بيبول". حينها لم يكن المهندس جورج بحاجة إلى سيارة جديدة لأن سيارته فعلاً جديدة، لم يكن بحاجة إلى مرسيدس لأنه كان يمتلك بي أم دبليو، لم يكن بحاجة إلى شقة أكبر لأنه كان يعيش في فيلا، لم يكن بحاجة إلى السفر لأنه اكتشف زيادة مكسبه المُتوقًّع عندما كان يستجمّ في إسبانيا. في الحقيقة لم يكن بحاجة إلى أي شيء، ومع ذلك انطلق في سُعار لم يكن يتوقعه وأنفق الكثير من المال على كل ما ومن حوله.

سفرٌ كثير، ساعات يد كثيرة غالية، هدايا لصديقات وأصدقاء، أجنحة واسعة في فنادق فخمة، سيارات فارهة مستأجَرة. كل هذا في عصر ما قبل الفيزا؛ كاش فحسب وأوراق مطبوعة ملونة تجري بين السبابة والإبهام.

بعد شهور من البذخ الإسباني عاد إلى القاهرة مغموماً لأنه لن يجد فيها ما سيفتقده في إسبانيا. وفي أحد الأيام استيقظ من نومه في الخامسة صباحاً، أبكر بساعات عن موعد استيقاظه المعتاد، قام من السرير يحرّكه شيء غامض، اتّجه نحو غرفة المكتب، فوراً أخرج كتالوج العام الماضي من على أحد رفوف المكتبة، أخذ يقلّب الصفحات بتركيز بالغ، وعندما استقرّ على صفحة بعينها قرأ كل المعلومات الواردة فيها بتركيز أشدّ، نقل نظره إلى الصور الفوتوغرافية الثلاث، واحدة كبيرة واثنتان صغيرتان أسفل منها، ثم قرأ المعلومات مرات أخرى عديدة. عندما تأكّد من أنه يعدّ كل معلومة ميزةً بشكل ما، أمسك سماعة التليفون الأرضي وبدأ في طلب الرقم.

عندما سمع رنة التليفون في إسبانيا، فكّر المهندس جورج في التالي: من سيرد عليّ؟ هل هي حلوة؟ سأدعوها للعشاء عندما أذهب إلى برشلونة، مقر الشركة في برشلونة، صحيح؟ لا بد أنها بنت حلوة، صغيرة لأن السيدات الكبيرات لا يعملن في أعمال مثل هذه، هل تتحدّث الإنجليزية؟ لا أجيد من الإسبانية سوى جمل قليلة، عليَّ أن أتعلّمها، المرة القادمة سأطلب من الأصدقاء هناك أن يعلّموني، ربما عليّ أن أتعلّم في إحدى المدارس، تعليم اللغة للكبار، لكني سأكون مشغولاً بتخليص أوراق ملكية الجزيرة، يا الله على جمالها، من الطائرة تبدو وكأنها الجنة، سأحوّلها إلى جنة فعلاً، الشكل الطويل الممتد يسمح بوجود شاطئ طويل، وقد أبني مباني أخرى صغيرة هنا وهناك. أنا لن أعيش في مبنى صمّمه غيري، مستحيل طبعاً. وسأبني أيضاً مرسى لليخت، نعم سأشتري يختاً بالطبع، لماذا أستأجر واحداً كي أبحر به إلى جزيرتي؟ سأسمّيها دوللي، أو ربما سأسمّيها إنجي، لكن أظنّ أني في النهاية سأكون خفيف الظل وأسمّيها رشا، كل ست عرفتها تحمل اسم رشا كانت جميلة، لم لا تردّ رشا الإسبانية على التليفون؟ لكن اليخت فكرة غبية، سأصمّم مهبطاً صغيراً لطائرة هليكوبتر صغيرة، طبعاً سأشتري واحدة، سأتعلّم قيادة الهليكوبتر أيضاً، يعني عندي الإسبانية وتعلّم الطيران، تسعة وعشرين وخمسين وسبعين، اطرحهم من ثلاثمئة، لا شيء، لا شيء فعلا. أحه يا جورج لن تستطيع إنفاق كل ما كسبته بهذا الشكل، أقفل السماعة يا غبي وقلِّب مرة أخرى صفحات كتالوج الجزر ربما تجد شيئاً أغلى، الأسعار ليست مدونة لكنك تعرفها بالتقريب، اختر يا حبيبي أغلى شيء لأنك لو لم تفعل ذلك ستكون غبياً فحسب، المال في الشارع، مدّ إيدك واغرف منه بلا حساب، كل شيء هنا فاسد تماماً ومالك وأموال الجميع أتت من الوساخة، سنوات عامرة إن شاء الله والمسيح ومريم وأي شيء آخر، المهم أن تمدّ يدك وتغرف.

هنا استيقظ شيء ما في داخله، أو لعل شيئاً ما قد مات؛ هو نفسه لا يعلم. أغلق السماعة واتجه إلى السرير وهو يتنفّس بعمق، قال لنفسه إنّ الشركة في إسبانيا لم تفتح بعد بالتأكيد، وإنّ فكرة شراء جزيرة ويخت وهليكوبتر فكرة مجنونة أخرى، وإنه الآن في وضع غير مستقر، وعليه أن يسيطر على نفسه.

عندما أنهى حكايته في ذلك اليوم، نزلتُ إلى الرطوبة والحرّ من دون أن أفهم لِمَ حكى لي كل هذا.

خلال السنوات المقبلة عملتُ معه في مشاريع قليلة، أشياء محددة للغاية كنت أقوم بتصميمها، تماماً مثل أول عملية كلّفني بها. في إحدى المقابلات أخبرني أنه مريض وسيدخل المستشفى قريباً، صمَتُّ منتظراً التوضيح، لكنه لم يوضح وقال لي وهو يهزّ رأسه مبتسماً: "فاكر الجزيرة؟ رشا؟ يا ريتني كنت اشتريتها". بعد أسابيع سأعلم أنه أصيب بتليّف الكبد، كان قد اعتاد على شرب زجاجة ويسكي كاملة يومياً في السنوات السابقة. بعد شهور سيموت المهندس جورج من دون أن يشتري الجزيرة ويسمّيها رشا.

تدهور وضع عائلته كثيراً بعد وفاته، أنا أصلاً لم أكن أعلم أنه متزوج وأب لشابين، خسرت العائلة الكثير جداً من المال، اكتشفوا أنه لم يكن حريصاً على استكمال أوراق ملكية ما يملكه من عقارات، وأنّ الكثيرين من الرفاق القدامى قد باعوه. ما أدهشني أنّ كل ما حدث للمهندس جورج عبارة عن حكاية نمطية للغاية: المال والجزر والنساء، والأوراق الملونة تجري بين السبابة والإبهام، والخسارة والخيانة والطمع الذي يلي الوفاة.

بسبب تقلب الأنظمة الاقتصادية تبعاً لرؤية كل حاكم، يتراوح الأغنياء بين العوز الشديد والثراء الفاحش؛ أشخاص يثرون فجأة بلا أي مقدمات وآخرون يختفون تماماً من عالم المال، أشخاص يهربون خوفاً على أموالهم وآخرون يعودون بأموال طائلة لاستثمارها، وطالما عجلة المقاولات تدور، فالمال يدور معها وبها.

خلال أحد عشر عاماً من العمل كمهندس مدني لم يتبقَّ في ذهني إلا القليل جداً من الحكايات؛ بِلْية الذي كسب مكسباً هائلاً من عملية حفر واحدة، انتشر خبر مكسبه هذا فحُسد فمرِض، أو ربما ادّعى المرض خوفاً من الحسد. هناك أيضاً أحمد الذي يرتدي ملابس يشتريها من الخارج، وأحذية جلدية مفصَّلة في فرنسا لقدميه خصيصاً. يأتي إلى الموقع بِطلّة أنيقة تليق بجسده الممتلئ، بينما يأتي الجميع - مع اختلافهم - بملابس قديمة مهمَلة خوفاً من تلفها في الموقع المليء بالخشب والمسامير والاسمنت والدهانات. ثم هناك الشيخ ابراهيم ذو اللحية وزبيبة الصلاة، صاح أمامي في لحظة تذكُّر: "أخ نسيت أصلي الظهر والعصر!"، سأله أحد المحيطين به: "إيه اللي نسّاك الصلاة يا شيخ؟!" فردّ باستسلام تام: "الذهب". الشيخ ابراهيم يمتلك مصنعاً للمصنوعات الذهبية في إحدى المدن الجديدة المحيطة بالقاهرة، وينشغل بالعمل داخل المصنع الصغير طوال اليوم. فهمت منه أنّ الجميع حريص هنا على الأمانة والإخلاص، ولا يمكن لأيّ من العاملين لديه أن يترك عنده انطباعاً سيئاً، وهو نفسه لا يمكن له أن يكون شكاكاً، قال لي إن كل من يعمل في مصنع ذهب يُظهر تواضعاً وفقراً، خاصة الصُيَّاغ الذين يمسكون الذهب بين أصابعهم، قال لي إنهم حريصون حتى على تراب الذهب، ما ينتج من برد القطع وتلميعها، جرامات قليلة غير مؤثرة تقريباً لكنها تظل مهمة لتثبيت الثقة بينه وبينهم.

هناك أيضاً المهندس شاكر. أول سيارة "شخصية" اشتراها في حياته كانت فيات 128، اشتراها بالشراكة مع شريكه في العمل وكانا يتبادلان قيادتها معاً. بعد سنوات سينفصلان، وسيبدأ سباق شديد المرارة بينهما؛ من يبدِّل سيارته أسرع من الآخر. في عام واحد بدّل كل منهما سيارته الشخصية ست مرات، وبعد مدة استسلم الشريك السابق تماماً واستمرّ المهندس شاكر يبدّل سيارته الشخصية كل شهر تقريباً.

أخبرني المهندس شاكر أنّ المشكلة الكبيرة التي تواجه أي ثري هي كيفية زيادة ثروته. بشكل عام، هناك حدّ ما معيَّن من الثراء، يختلف حسب البلد والزمن والعمل وطبيعة الثروة ذاتها، بعد هذا الحد تصبح زيادة الثروة سهلة، وتحدث الزيادة بمتابعة العمل متابعة بسيطة. لكن هناك حد آخر من الثراء بعده تصبح زيادة الثروة حتمية، حتى إن حاول الواحد "فرتكة" أمواله، فلن يؤدي ذلك إلى نقصانها، بل إلى زيادتها بالتأكيد. قال لي إنه يحاول منذ مدة الوصول إلى الحد الثاني بلا أي نجاح، ولا يزال حتى الآن ينمّي ثروته؛ يفعل ذلك بمجهود قليل للغاية، لكنه ينتظر أن تزداد ثروته من دون أن يبذل أي مجهود. قال لي إنّ كل المتَع تُبتذل تدريجياً بعد ذلك الحد، يدير الملل الحياة والعمل والعلاقات، وتبقى متعة وحيدة تُسيل اللعاب من دون أن تُبتذل أو تُمَل؛ زيادة الثروة.

حاولت تذكّر اسم الرجل لكنه غاب عني إلى الأبد. لا زلت أذكر ملابسه البسيطة النظيفة المكوية، نظارته العادية، حذاءه البسيط المُعتنى به جيداً، هدوءه وكلامه الذي بدا لي ساذجاً في ذلك الوقت، وجهه الذي يشبه وجوه الملايين في مصر. قابلته في اجتماع عمل مع صاحب إحدى الشركات التي عملت فيها. تحدثا عن أشياء كثيرة، ثم تحوّل الحديث إلى الفيلا التي يريد بناءها على أرضه، أو جزيرته. الأستاذ يمتلك جزيرة في النيل قرب حلوان جنوب القاهرة، سيبني في طرفها فيلا صغيرة. مشكلته الحالية تتلخّص في وجود عائلات عديدة تعيش في الطرف الآخر من الجزيرة، لا يمتلكون سوى ما يعيشون فيه من مبانٍ بسيطة، ولا يمتلكون الأرض نفسها. ورث الجزيرة عن أمه بعد وفاتها ووجد عليها هؤلاء في حالة استقرار تام، وهو بالطبع لا يريد أن يطردهم أو أي شيء من هذا القبيل، قال بوضوح وصِدق إنّ طردهم لا معنى له أبداً.

ثم قال إن مشكلته تتلخّص في أنه "قرفان" منهم. اعتاد أن يمرّ بسيارته قرب المباني التي يسكنون فيها، أن يراهم من بعيد يمشون على الأرض، لا يميّز أي أحد منهم. بالنسبة له هؤلاء مثلهم كمثل باقي الماشين في شوارع القاهرة، والفارق الوحيد أنهم يعيشون على أرضه، كرّر مرة أخرى أنه لا يشعر بالغضب لأنهم يعيشون على أرضه، ما يستفزّه فعلاً هو القرف.

عندما سأله صاحب الشركة عن سبب القرف، قال له إنه كلما مرّ على مبانيهم وجدهم "ينشرون" ملابسهم المغسولة في البلكونات. قال إن نشر الغسيل لا يزعجه، المقرف فعلاً أنهم يغسلون ملابسهم الداخلية، قال له: "تخيّل يا بشمهندس، بيغسلوها وينشروها" وهنا ظهر لأول مرة الامتعاض الشديد على وجهه. نظر إلى الأرض لثوانٍ، ثم رفع رأسه وغيّر دفة الحديث.

في تلك الدقائق البعيدة كنت أفكّر في العوائق والصعوبات التي سأواجهها إن قمنا ببناء الفيلا بالفعل، كيف سننقل مواد البناء عبر النهر؟ هل سيزعجنا السكان هناك؟ وتجاهلت حديثه عن الملابس الداخلية لأني لم أفهم ما يقصد، كل ما فكرت فيه أنه من النظافة أن يغسل الواحد ملابسه الداخلية، لِمَ هو قرفان إذن؟

بعدما غادر كنت لا أزال أفكّر في الصعوبات العملية، عندما سألني صاحب الشركة: "شفت؟ قالك بيغسلوا الأندر بتاعهم"، صَمَتُّ - كالعادة - منتظراً التوضيح، قال لي: "إنت مش فاهم يقصد إيه، صح؟" أومأت موافقاً، فقال: "البيه مش بيغسل بوكسراته، بيلبسها مرة واحدة ويرميها". صمَتَ هو قليلاً، على الأغلب لأن أمارات عدم الفهم ظلّت مرسومة على وجهي، وتابع ببساطة: "واحد زي دا مش هانعرف نشتغل معاه، دا أكيد يعرف مليون واحد في البلد وممكن يطلعوا تلاتة وتلاتين ميتينا لو حصل خلاف معاه، اللي زي دا تديله سعر في العالي ولما يسأل على سعرنا هايفهم إننا طماعين وعايزين نقلِّبه، فهيهرب مننا ويروح لحد تاني، ربنا يكون في عون اللي هايشتغل معاه".

تأخرت الصدمة، لم تصلني إلا بعد أيام بينما أمسك بوكسري المغسول وأتأمله، لا أعرف كم مرة غُسل، لا أعرف متى اشتريته، ولا أعرف متى سأتخلص منه وأشتري مجموعة أخرى. فكرت أيضاً في بوكسرات الرجل الذي يستعمل بوكسراته مرة واحدة، أيشتريها من عمر أفندي مثلما أفعل؟ أهي ماركة "جيل" المصرية المريحة؟ أهي من القطن المصري 100%؟ في ذلك اليوم ارتديت البوكسر وتابعت الروتين اليومي، ثم نزلت إلى الشارع متجهاً إلى العمل كأي مَنث بيبول مصري مجتهد.

Contributor
محمد ربيع

محمد ربيع: كاتب مصري مواليد 1978، كتب روايات «كوكب عنبر»، «عام التنين»، «عطارد»، و«تاريخ آلهة مصر». يعيش ويعمل في برلين.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right;"><span style="font-size: 14pt;">محمد ربيع: كاتب مصري مواليد 1978، كتب روايات «كوكب عنبر»، «عام التنين»، «عطارد»، و«تاريخ آلهة مصر». يعيش ويعمل في برلين.</span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.