RR

فريد الأطرش في العتمة

"Tabriz Cemetery" by Sajed Haqshenas

*١- شيء جنينيّ جدًّا*

 

وصف: راشي ٩،
الطّابق الرّابع
باب الزّهور
تل أبيب

في المرّة الأولى الّتي زرتُ فيها س.ش. في مسكنه جائتني بحّة فريد الأطرش قادمة من العتمة من إحدى الشّقق بعد خروجي من المصعد الّذي هبط للتوّ في الطّابق الرّابع.

قبل الدّخول، لم أجد مرآةً لتوظيب أطراف القميص داخل جينز الماما (mommy jeans) المنتفخ عند كرشتي. وقد استغربتُ ذلك لأنّ من عادة المباني التّل أبيبيّة الكلاسيكيّة أن تستقبل زوّارها بدعوة للالتفات إلى هيئاتهم، والمرآة في المدخل كانت مستطيلة تطوّق ما أتيح من جدران، باستثناء الباب، فلم أتمكّن سوى من معاينة وجنتيّ وأطراف عيوني وسيلان الكحل.

أخمّن الشّقّة ذات الباب المزيّن بالزّهور كما وصفه لي المكتري في العنوان المذكور. لم أرَ أيّة زهور. ورحتُ أخمّنُ، من يستمع إلى فريد الأطرش في السّادسة والنّصف في مساء يوم أحد مبلول برطوبة شاطئ متوسطيّ؟ وهل يحتسون بيرة بينما يسحبون شرائح البطاطا المقليّة؟ أم يكتفون بقهوة سادة قبل فيلم مسائيّ؟

صوت س.ش. ولكنته الهادئة ورنّة حرف الرّاء في اسمي تذكّرني بضجيج ناعم، مثلًا: انسكاب الماء بين حجارة ملساء. في زاوية مرآته المركونة إلى أحد الجدران بشكل مائل، التقتْ عيني بعينيّ القطّة في لوحة لوسيان فرويد «فتاة وقطّة» في بطاقة بريديّة تكاد تنسجم مع لون البلاط الخافت. كاثلين تلفّ إبهامها وسبّابتها حول حنجرة كائن لا يتمكّن من الفرار لا من قبضتها ولا من لحظة الفنّان، بينما تنظر كاثلين الّتي تملأ هيئتها البطاقة البريديّة في زاوية المرآة صوب الباب، فرصة النّفاذ الوحيدة.

 

*٢- إيقاع الغياب*

 

في مكان يبعد أربع ساعاتٍ عن العنوان أعلاه، ويقع على الحدود السّوريّة، سرّب أحدهم علبة شريطٍ موسيقيّ في جوف بيانو عارٍ من الخشب، شريط لفريد الأطرش «يا حبايبي يا غايبين (١٩٧٥)».

القصّة وما فيها أنّ المكان، حيث عثرنا على علبة الشّريط، يُجرّب فيه تحنيط الأشياء وإعادة تأهيلها، ويندرج من ضمن ذلك تصميم طاولات باستخدام أشياءٍ عثر عليها مالكا المكان في سوق الرّابش. يقومان بتعديل العَادِيَات المعاصرة فتعود صالحةً لخدمة الإنسان المعاصر الّذي يأكل البيتزا ويشرب ما يشاء، في المكان الّذي يجرّب تحنيط الأشياء وإعادة تأهيلها، دلالة الانتصار على غياب الماضي. خذي مثالًا صُلْب بيانو عارٍ. تبقّى من هذا البيانو جسره الحديديّ وبضعة مفاتيح على ما نذكر.
”هل عُثر على شريط فريد الأطرش في سوق رابش آخر أم هو فضاضة أرشيفات شخصيّة؟"
”ما العبرة من دحش شريط موسيقيّ في قالب بيانو معروض للتّشريح تحت كؤوس الجعة ومنافض السّجائر؟“
يغطّي الهيكل المعدنيّ مساحة زجاجيّة نتمعّن من خلالها في خارطة الدّاخل الّذي صدرت منه أصواتٌ ما بالتّأكيد، أصوات ربّما عزفتها فتاة روسيّة مرهفة أو مكرهة على ممارسة العزف، أو أنّ أصحابه استخدموه بحلّته الكاملة كخفّاش ليل في صالون منزليّ ليزيح قدرًا لا بأس به من الفراغ في الفضاء، منتظرين أناملًا تحنّ عليه وتحنّ عليهم لأنّهم لا يجيدون العزف أصلًا بينما تمتثل أمامهم هذه التّحفة العملاقة بسكون ملل الانتظار. 

ليتها تصير الأعمال الفنيّة عناوين الأخبار الوحيدة يومًا ما؛ مثلًا: أشعل دوغلاس غوردون النّار في بيانو سليم وسط طبيعة يانعة على حدود الإمبراطوريّة الرومانيّة سابقًا، بين إنكلترا واسكتلندا في الوقت الرّاهن، سيستغرق احتراق المفاتيح العاجيّة وقتًا أطول من انتظار الأبحاث الّتي تخمّن أسباب عصيان العاج ورفضه للاحتراق.

ولكن، عندما تظهر صورة فريد الأطرش على شاشة التّلفاز، نوافق جميعًا أن نقلب المحطّة أو أن نعتَم الشّاشة.

 

*٣- حماقة أو أوكواردنس*

 

مقدّمة: في البدء، كلّ الوجوه مبكسلة. ثم تمرّ السّبابة والإبهام على مُسطّح زجاجيّ رقيق، يسارًا أو يمينًا. ثم يشتغل عدّاد الاحتمالات في دوائر التّعارف والمواعدة.

تبدو لي الفتاة الّتي تحدّق في المسطّح الزّجاجيّ شخصًا ملولًا لا تحرّكه الحيرة على الإطلاق.

اعتادت الفتاة الّتي تحدّق في المسطّح الزّجاجيّ أن تتحدّى الأفكار النمطيّة، فلو سألها أحدهم ”من وين إنت؟“ تمتنع عن الإجابة درءًا لأيّ فكرة واردة أو شاردة قد تضرب جوّ الحديث فتردّ بثقة: ”ما أبيخ هذا السّؤال!“، فلماذا يُسأل هذا السّؤال القديم في مثل هذه الأوقات الّتي يحدّق فيها النّاس في مسطّحات زجاجيّة خلال ساعات يقظتهم؟ وهل تفرق مع السّائل المتعطّش للتّحديق في المسطّح الزّجاجيّ كم كيلومترًا تقطع هي ووحدتها والحقيبة الدّسمة ذهابًا وإيابًا إلى ”الأين“ في السّؤال المذكور؟ وتعبيرًا عن النّفور من هؤلاء، تُطلق الفتاة الّتي تحدّق في المسطّح الزّجاجيّ أحيانًا شاربها الشّفاف الّذي يغمقّ كلما غفلت عن متابعة نموّه فتبدو فتى أمردًا. وحينها تدرك الكوامن المسليّة في انشغال الجميع أصلًا بالتّحديق في المسطّحات الزّجاجيّة في كلّ مكان: هم لن يلاحظوا تحوّلها إلى فتى أمرد لو امتنعت عن الكلام.

”برضه خايف لا تجافيني“

تعرف الفتاة الّتي تحدّق في المسطّح الزّجاجيّ أن كلّ المرئيّات الّتي نحدّق بها عبر المسطّحات الزّجاجيّة بين أصابعنا صامتة لا تقول ولا تحكي، ويحرّكها خوف عميق يحارب التّلاشي.

لا يعرف س.ش. فريد الأطرش، ومن يعرف فريد الأطرش من الّذين أعرفهم لا يستسيغونه. فريد الأطرش هو كلّ الوجوه الّتي لا يريدون أن تظهر لهم في المرآة. هو صوت يُنسى ويتبدّد باستمرار ولو غاب صوته في الأثير تنقشع صورته تلقائيًّا.

تأكّدت الفتاة الّتي تحدّق في المسطّح الزّجاجيّ أنّ س.ش. يكنّ كرهًا للحبكات الجاهزة. نحن هنا لأن س.ش. يعيش اللّحظة فحسب، بينما تبحث هي عن سبب مقنع لعدم التّلاشي. تصنع أسبابًا للحديث، وتخترع مناسبات لتمرير الوقت. لا تريد لصورتها أن تمّحي، تتحايل على التّعتيم، وتبالغ في قذف الرّسائل، في بثّ الإشعارات من شاشتها باتّجاه شاشات أخرى. هذا الحرص على البقاء يقودنا إلى صوغ اللّحظات القادمة. كلّ اللّقاءات القادمة ستكون صنيعة ارتجال. وسترتكب حماقات أثناء التّجريب. وستكون وداعات س.ش. متفاوتة، أحيانًا حميمة وأخرى جافية. وسيمنع غيلان الشّاشات الّتي نحدّق بها أن يتلامس وجهيهما إلى الأبد.

لن تبحث عن إيقاعٍ الآن. كلّ ما سيأتي سيكون أكثر تشويقًا ممّا سبق. وفي اللّحظة الّتي تتحقّق فيها الأشياء المشوّقة، ستكون لا زالت على قيد الحياة. ولا زالت تستشعر خدودها الدّافئة. دافئة بفضل المكوث في غرفة تقتحمها شلّالات الشّمس. أو بفضل الانهماك في العمل على سلسلة رسوم جديدة، أو مهمّة أخرى، مهمّة عاديّة. يعيدها هذا الانهماك إلى احمرار الخدود والأذنين أثناء الامتحانات المدرسيّة.

تستلذّ بالطّرب الّذي يرافق عمليّة تنظيف الأذنين من الصّمغ. ينبّهها الطّبيب دائمًا: لا داعي لاستعمال هذه العيدان فالاُذن تستطيب هذه الأشياء الرّطبة الّتي تلتصق برؤوس الأصابع.

Contributor
بكريّة صائب
Post Tags
Share Post
No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.