RR

عن مستقبلي الذي أَطلّ اليوم

ريما رنتيسي ترجمته من الإنكليزيّة زينة الحلبي

عبرت الزّمن لكون هون - الصّورة لزينة الحلبي
عبرت الزّمن لكون هون - الصّورة لزينة الحلبي

جلست في رواق شقتي في الطابق الخامس حيث كان بإمكاني التقاط الانترنت من جيراني في الطابق الثالث. كانوا قد أعطوني كلمة السرّ لأنهم اعتبروني من العائلة، خصوصاً وأنني في سنتي الثالثة في بيروت، كنت لا أزال غير قادرة على إتمام أي معاملة رسمية، كتأمين خط هاتف مثلاً.

أرسلتُ لكاثرين التي كانت في شيكاغو آنذاك، رسالة نصية عاجلة أقول فيها إنني غير قادرة على التحدّث معها عبر سكايب لأنني في الرواق، وإنّ صدى صوتي قد يتسلّل إلى عتبة جارتي المجنونة ويجتاز المزار الذي نصبَتْه لجميع القدّيسين، فتبدأ بالصياح. وأنا كنت أهابها. ففي يومي الأول في هذه الشقة، وقفتْ منى أمام الباب فيما كنت أعمل على الكمبيوتر، حدّقتْ بي بوجه متوهّج بالبوتوكس يحيط بها دخان سيجارتها كما لو أنه قد تكفّل بالصراخ بدلاً عنها.

"من أين لك الانترنت؟"، سألتْ.

ابتسمتُ بصفاقة وأجبتها دون تردّد:“منك!" مع أنني كنت قد قلت لنفسي "لا تخبريها!". في اليوم التالي، طبعاً، قُطع عني الانترنت.

يقيم أولاد منى في الولايات المتحدة. وهي تزعم أن أحدهم أستاذ لامع في الفيزياء وأنه لا يتّصل بها. فكالعديد من قاطني بيروت الذين نجوا من الحرب وهاجر أولادهم، عاشت منى على حافة الانهيار العصبي في شقة إيجارها قديم. قلّما كانت تخرج من بيتها، وحين كانت تتجرّأ على الخروج، كانت تخلع البيجاما وتمشّط شعرها بالسيشوار، تضع ماكياجاً ثقيلاً وترتدي تنورة قصيرة لتتوجّه كعادتها إلى السوبرماركت. وكلّما كانت تسمع صوت بابي صباحاً، كانت تفتح بابها وتدعوني للقهوة وتفسير الأحلام. تشعل سيجارة مارلبورو حمراء، تعرض علي واحدة، ثمّ تُخرج كتاب تفسير الأحلام من تحت وسادة الكنبة. أنا أقرأ فنجانها، وهي تفسّر أحلامي.

ما لم تعرفه منى هو أنّني كنت أقرأ بانتظام astrologyzone.com في أوقات الفراغ وأتوسّل آلهة التارو بحثاً عن أجوبة. كنت مثل منى، أسترق المستقبل كي أتوق إليه. كنت قد بدأت عقدي الثالث، وكان شبح المستقبل حاضراً أمامي، وكانت الحياة الحقيقية على وشك البدء. كان هذا العقد الأخير لي كشابة، وكان من المفترض أن أعرف نفسي جيداً، أكثر من أي وقت مضى. كنت مصمّمة على أن أجد نفسي، كما يقال، وكأن نفسي لم توجد بعد.

كأنني جالسة دائماً في رواق مظلم، أنتظر.

في الأربعين، أطلّت حياتي فجأة. استهلّيتها بالجري في الماراتون لأنني أردت اختبار قوتي وتخطّي الانفصال الأخير الذي عشته. بدأت أعمل على مدوّنة ومجلة، وبعدها حصلت على شهادة أخرى في الكتابة لأني أحببت أن أصبح كاتبة. أخذت شاباً على محمل الجدّ، وتبعت حدسي وتزوجته وأنجبت منه طفلاً وأسّست عائلة. تواصلت جاهدة مع أصدقائي، منهم من كان بعيداً، ومنهم من كان جديداً. كنت بحاجة إليهم. أرسلت إلى أولاد إخوتي كتباً عديدة على مدى السنين لأني كنت أريدهم أن يتعلّقوا بالقراءة. سافرت إلى بلاد بعد أخرى لأنني لطالما أحببت ذلك. قضيت طيلة فصول الصيف مع عائلتي لأنني كنت أريد أن أبقى قريبة منهم، في البيت. نشطت في السياسة لأني أردت تغييراً في البلد. تعلّمت أن أعدّ للعشرة قبل أن أتكلّم حرصاً على عدم الكشف عن أوراقي.

على عتبة الأربعين، أنا في المستقبل. أكتب من مكتبي، في بيتي، حيث أسكن مع عائلتي واستمتع بالانترنت من على كنبتي. جسدي منهك. آخذ استراحة من العالم الخارجي حيث يحتفل لبنان بالشهر الأول على بدء الثورة. منذ أكثر من أربعين عاماً وزعماء الحرب الأهلية قابعون في السلطة فيما يعشّش الفساد في ثنايا النظام. كان الشعار الأكثر شيوعاً طيلة الشهر الماضي "لا عودة". في الشارع قوة شعب بدأت تتراكم منذ سنين. يبدو التغيير فجائياً ولكنه كان وليد كل تلك السنوات الخالية.

ماذا عن مستقبل الثورة؟ من يدري، لكنّ المستقبل يبدو وكأنه قد أطلّ اليوم.

Contributor
زينة الحلبي

زينة الحلبي، أكاديمية وكاتبة تهتمّ بالثقافة العربية المعاصرة. صدر لها كتاب عن تمثيل المثقّف في الأدب والسينما منذ تسعينات القرن الماضي. عملت أستاذة جامعية في الولايات المتّحدة والجامعة الأميركية في بيروت وتحرّر حالياً القسم العربي من فَمْ: مجلة بيروت الأدبية والفنية. لا تهوى الترجمة، ولكن هناك نصوص تعترضها دون خجل أو سابق إنذار.

Contributor
Rima Rantisi

Rima Rantisi teaches in the Department of English at the American University of Beirut and is the founding editor of Rusted Radishes: Beirut Literary and Art Journal. Her essays can be found in the New England Review, Literary Hub, Assay: A Journal of Nonfiction Studies, Sweet: A Literary Confection, Past Ten, and Slag Glass City. She holds an MFA in Creative Nonfiction from the Vermont College of Fine Arts.

Post Tags
Share Post
Written by
No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.