RR

المقتحِمون والمدينة

في التحولات الجذرية، تصبح محاولات التمعّن في الذات أكثر إرباكاً، أن تبدّل منظار الرؤية بين ما تراه مباشرة وما يراه شخص يحدّق فيك من الخارج، خصوصاً في الكتابة. نُسأل كثيراً في عشرات الندوات التي تتحدّث عن الفن والكتابة في المنفى عن أثر المنفى في الكتابة. لكن عدة عوامل تتضافر لتصعّب تقييم الموضوع. مراحل العمر تتكوّن وتعجن مع ظرف المكان الجديد وظلال ما كان يجب أن يكون في محل المكان القديم، ومحاولات الخروج من جلدك لتتمكن من مراقبة نفسك من بعيد، متأملاً صورة الذات هذه التي تتفاعل مع ما حولها، مرةً بالمسايسة ومرة بالمقاومة وأخرى بالانسحاب أو العراك، في الضوء الساطع لحياة الصباح العملية وهي تجاهد بالتواصل بألمانية متكسّرة، تفضّ الظروف البريدية من مصلحة الضرائب وتجري مكالمات هاتفية عالية الصوت بالعربية، أو في ساعات الليل منكفئة على نفسها ومستسلمةً لشتى الأفكار الانهزامية.

أجد نفسي في وسط هذه الأفكار مشدودةً إلى شجرة بنّ منزلية، أرفعها وأقلبها بين يدي، فيها حبات كبيرة. أتأمّلها بإعجاب وأنتبه لوجود عدّة زرعات نسيتها دون سقاية منذ أشهر، هناك دائماً زرعة ما نسيت أن أسقيها في زاوية مخفية، بدأت أدرك ما يحدث الآن، وهذا يعني شيئاً واحداً اعتدت أن أفعله في مثل هذه المواقف. أجري باتجاه النافذة وأرمي بنفسي خارجها لأطفو في الهواء. أتحكّم في حركتي للحظات ثم أترك جسدي يُسحب رغماً عني، ارتفاعاً أو انخفاضاً بسرعاتٍ لا أستطيع إدراكها. آخر ما لمحته هذه المرة هو صورة كلب يحدّق فيَّ من قلب العتمة في زقاق وانا أًسحب لتحت الأرض. 

تنبّهتُ مسترجعةً أبعاد الغرفة من حولي، على صوت ضربة آتية من مكان ما في المبنى. مدرَّبةً على احتمالات اقتحام المنزل في أي لحظة، وضعتُ يدي على الموبايل. كانت هذه فكرة دائمة الحضور مع سكني في منزل بطابق أرضي في المنطقة المحيطة بحديقة جورليتزر ذات السمعة الخطرة. كان لدي خطّتان تجهيزاً لسيناريو الاقتحام الممكن، مثيرتان للشفقة بنفس المقدار: نداء صوتي لسيري بأن تطلب الشرطة، أو مخاطبة أحد ما أونلاين على المسنجر بكلمات قليلة ليطلب النجدة، معوِّلة على أبناء الجالية المتواجدين في أميركا بالدرجة الأولى ممّن قد يكونون صاحين في هذا الوقت. ربما ليست الخطط سيئة للغاية في حال حالفني الحظ وتمتّع المقتحم بما يكفي من اللباقة ليمهلني بضع دقائق للتواصل مع الأصحاب أو الجهات المعنية.

بعد لحظاتٍ في ظلمة يقطعها الضوء الخفيف لشاشة الموبايل، بدأتُ أدرك أنّ صوت الضربة كان مرافقاً للكابوس الذي صحوت منه تواً، وهدأت مع سماع الأصوات المختلفة الخافتة الآتية من شقق المبنى كإزاحة كرسي، تشغيل صنبور ماء. أعوّل على الغرباء للأمان، هذه هي برلين، الغربة تولّد الألفة. لا اقتحام للمنزل اليوم، الاقتحام أيضاً من بين أمور أخرى يحدث في أحلامي فقط. رجال يظهرون من العتمة، يحاولون اقتحام المنزل بينما أُسرِع لأغلق النوافذ والأبواب في وجوههم على آخر لحظة. 

WhatsApp Image 2022-09-19 at 1.34.09 AM (1)

المقتحمون في الأحلام هم أفكار مكبوتة، تحاول التسلّل إلى مساحة الوعي. يزداد تواتر رؤيتي لحلم الاقتحام هذا عندما أكون في علاقة مع أحدهم، ولذلك تأويل واضح كما أدّعي. هناك طبعاً حياة كاملة قبل حياتي هذه هنا، مدفونة في الرمال وكأنها لم تكن. لا أجوبة لديّ أنا نفسي عن علاقتي بها حتى أستطيع فتح نقاش كهذا مع شخص آخر. الحميمية المخيفة. بالطبع سيتقافز تحت وطأتها رجال من جنح الظلام مستهدفين شبابيك وأبواب منزلي في الحلم، وأنا أتقلب في السرير قبالة شخص آخر، مذعورة من احتمال انقطاع الصمت ومستعدّةً للدفع بأي حديث مزيّف إلى الواجهة لملء المسافة بيننا خشية نبش ذلك الكيان المدفون، نجحت حتى الآن بالدوس على أصابعه المرتجفة التي تجد طريقها نحو السطح بين فينة وأخرى، وبالنجاة من تجلياته في الكوابيس. أنا هنا الآن، مع كثيرين من أمثالي الهاربين من دفائنهم أيضاً. أليس من أجل ذلك تحديداً وجدنا أنفسنا كلنا هنا؟ وجوه تظهر وتغيب بحركة متعجّلة، عدوانية أحياناً، في الشوارع والميترو قبل أن تحفظ ملامحها، كميات مهولة من النباتات المنزلية تُنقل بين المشاتل والمنازل بلهفة، أجساد تتلوّى في الكلوب مع قليل من الارتياح في الحدود الشخصية مقارنة بعالم النهار، مع إسدال العتمة ستارها الجامع لكل هذه القلوب المنهكة. أتعثر في الطريق إلى حمام الكلوب. اضطر لمشاركة كبينة مع مجموعة تخط خطوط الكوك على سطح موبايل، أحدهم يضبط الخطوط ببطاقة AOK للتأمين الصحي. جلست لأقضي حاجتي محاطة بصوت شجار على ثخن الخطوط، وأنا أتأمل الفوضى العارمة من الملصقات والكتابات على الباب، تشبه باب أي بار في كرويزبرغ، دعوة لمهرجان ما، رسم مهبل أنثوي مع شعار نسوي، كتابات بالعربية - إذاً إنّ عددنا يزداد بشكل ملحوظ هنا - "جسدي ملكي".  لكن الخربشة التي استوقفتني فعلاً، هي عبارة حب كلاسيكية:

Ken + Sarah= <3 for ever

جملة تبدو من صياغة مراهق أو مراهقة، بدا أمراً غريباً للغاية. برلين نموذج ناجح للغاية عن مدينة مصممة للغرباء لدرجة أنني استهجنت فكرة أن احداً ما يقضي فترة مراهقته فيها، كأنها مشهد من كوميكس لم يهتم الرسام فيه برسم فئات أخرى عدا عن التائهين في أول شبابهم ومنتصف أعمارهم، الملتفعين بريبتهم، لدرجة يكاد الأمر يبدو وكأنه ثغرة في الماتريكس. ربما تصدف أحياناً أطفال حضانة يمشون في خط واحد عند إشارة مرورية في مشهد يبدو تمثيلياً للتمويه عن الحقيقة.

WhatsApp Image 2022-09-19 at 1.43.22 AM

أذكر في بداية انتقالي لبرلين، حماسي لزيارة معالمها ومتاحفها الأبرز. قبل أن يخفت الحماس شيئاً فشيئاً مع توطّني نفسياً في المدينة أكثر لينصبّ اهتمامي على بناء تفاصيل اعتيادية يومية قابلة للتكرار، ليس هناك من يمكن أن يعطيك نصائح سياحية أسوأ من ابن المدينة، ولذلك أجرينا عرفاً في مجموعتنا يقضي بمطالبة الضيوف الزائرين بزيارة الوجهات السياحية بأنفسهم بمعاونة غوغل، إذ بعد جولات متكررة ضقنا ذرعاً بنزهات نقطة تفتيش تشارلي وبوابة براندبورغ التي قد تمر سنوات دون أن يمر المرء فيها، باستثناء حضور بعض المظاهرات السورية التي قد تنتهي بعراكٍ بالأيدي. اثنان فقط من معالم المدينة وما يمكن أن يسمى وجهاتها السياحية، صمدا من لائحة الأماكن المشطوبة تلك، وما زلتُ أرافق حتى اليوم ضيوف المدينة إليهما دون تذمّر: برج ألكسندر بلاتز وفيلا ماكس ليبرمان.

بحجّة الترفيه عن الزوّار لا أفوّت فرصة المشي قرب البرج وترديد قصّته للسيّاح مرّةً بعد مرّة، ارتباطه بتاريخ الـDDR وكيف استلهم مصممه هيرمان هانسلمان هيئة البرج من مكوك الفضاء الروسي سبوتنيك في ذروة منافسة مغامرات الفضاء الروسية – الأميركية، دون أن أفوّت فرصة لفت انتباههم لما يسمى انتقام البابا، وهو رسم الصليب الذي تعكسه أشعة الشمس على كرة البرج، والذي اعتبره المتدينون حينها رداً إلهياً على توجهات حكومة ألمانيا الديمقراطية الشرقية وممارساتها بإزالة أي مظاهر دينية من القسم الذي يقع تحت سيطرتها. جُعل البرج على ارتفاع 365 م تقريباً، نفس عدد أيام السنة، ليكون رقماً سهل الحفظ على التلاميذ، دائماً ما تدغدغ هذه الحركات التلقينية لحب الأوطان في نفوس الناشئة، وبشكلٍ غير حاقد، جانباً من ذاكرة طفولتي المفخخة بمدائح الوطن والقيم الوطنية.

ربما يكون البرج رمزاً كيتشياً، بالوفرة الهائلة لرسوماته على التي شيرتات والسوفونيرات البرلينية، لا نية لي بمعاندة هذه الفكرة أو دفعها، ولكنه وعلى مستوى شديد البدائية، يبثّ فيّ مشاعر اطمئنان هائلة، في كل مرة أتمكن من رؤيته مضاءاً في الليل من داخل سيارة تاكسي تعيدني إلى المنزل في وقت متأخر أو أثناء مغادرتي للكلوب في التاسعة صباحاً بعينين متورمتين.

أذكر أنّ إحدى أكثر فترات إقامتي دفئاً كانت في استديو ببناء غريب في شارع هاينرش هاينه يطلّ كوريدور الطابق السابع منه على البرج وعلى كلوب ليليّ كان مصنعاً فيما مضى كما هو معتاد في مساحات السهر هنا. رائحة الحشيش المنبعثة في كل أرجاء المبنى، صبغات الشعر الملونة للجيران، وصوت موسيقى تِكنو طفيف ينبعث من حجرات مجاورة أو من الكلوب. كنت أنام حينها بلا صعوبة رغم أنني كنت أفترش ملابسي في البداية لأنام عليها وقد استأجرته خالياً من الأثاث. كان المبنى ذو التصميم السوفياتي على شكل بلوك واحد يضمّ عشرات الشقق، يشبه أبنية «مسبق الصنع» في أطراف دمشق. تصميمه يوحي بأنّ الحمامات كانت في مساحة مشتركة خارج الاستديوهات السكنية. كان حياً هادئاً في ساعات الصباح والظهيرة وشديد الازدحام في منتصف الليل بسبب كثرة الكلوبات فيه، مع وجود بائع دونر في المنطقة كان ملجئي الوحيد ريثما اشتريت أغراض المطبخ، وبالنظر لجودة ما يقدمه، أظن أن وجوده في منطقة مزدحمة قرب محطة ميترو مركزية هو سبب في تمكنه من النجاة، إذ يصعب أن يأكل الشخص نفسه مرتين من المتجر نفسه. 

فيلا ماكس ليبرمان في الجانب الجنوبي الغربي من المدينة كانت معلماً آخر دأبت على التردّد عليه منذ بدء انتقالي إلى برلين. الفيلا التي تحوّلت إلى متحف الآن عند بحيرة فانزيه، لا تبعد كثيراً عن المبنى الذي تمّ فيه توقيع بروتوكول مؤتمر فانزيه المروّع لعام 1942، والذي عرف ببروتوكول الحل النهائي. تمّت مصادرة الفيلا من أرملة الفنان المتوفّي على يد النازيين، لتتوالى على المنزل مشاهد مختلفة من التاريخ فيتحوّل إلى مستشفى عسكري ومن ثم ثكنة لسكن النساء العاملات مع الجنود النازيين قبل أن تعيده السلطات إلى ورثة الفنان. في المتحف اليوم جزء يسير فقط من لوحات ماكس ليبرمان، إذ أن الحصة الأكبر من أعماله مجهولة المصير حتى اليوم بعد أن تعرّضت للنهب. في مكان اللوحات المصادرة – المسروقة مربّعات فارغة معلّمة بلونٍ مغاير للجدار، اعتدتُ الوقوف أمام هذه المربعات، التي تشبه مسرح جريمة قديماً، في واحد من الدروس العديدة التي تُلقّنها المدينة لزوارها في التعامل مع تاريخها الصعب، حوار بين الفرد والتاريخ، العبور تجاه ما خلف المقتلة، اقتضى حمل جزء منها مع الناجين أيضاً لتنصب كشاهدة للخلاص حيث يراها الجميع. في وقتٍ ما، قد تغمرني الشجاعة لتطبيق هذا الدرس القاسي، لنبش تلك القطعة المدفونة المؤلمة من نفسي وتعريضها للهواء، لأمرّ على أبواب وشبابيك منزلي أفتحها للخارجين من العتمة، فيدخلون منزلي ضيوفاً لا مقتحمين.

 
 
 

هذا النص هو جزء من ملفّ عنوانه "برلين" ويتناول تجربة كُتّاب وفنانين مع الهجرة إلى العاصمة الألمانية والكتابة فيها. أعدّت الملف فيولا شفيق لمجلة "المركز" التي نشرت المقالات باللغة الإنجليزية، وتنشر مجلة فَمْ النسخة العربية الأصلية لنص الكاتبة رشا عباس.

Contributor
رشا عباس

قاصّة سورية مقيمة في برلين صدر لها ثلاث مجموعات قصص قصيرة: آدم يكره (2008)، كيف تم اختراع اللغة الألمانية (2017 دار 10/11 للنشر)، ملخص ما جرى (دار المتوسط 2018). محررة القسم الثقافي ومنسقة ملحق هامش الثقافي في موقع الجمهورية. من مواليد 1984 نشأت في دمشق متلقيةً تربية فاضلة أدت إلى هذه النتيجة، ومن ثم تتلمذت على يد خيرةٍ من الخبراء في الصحافة الستالينية في قسم الإعلام في جامعة دمشق قبل أن يتم فصلها من الجامعة عام 2007، استهلت مسيرتها الصحفية والخيالية معاً بتأليف الجرائم وسلاسل قصص الجواسيس في جريدة حوادث محلية في دمشق، لها مساهمات صحفية وأدبية في مواقع ومطبوعات عربية وغيرها منذ عام 2005 وحتى تاريخه.

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl" style="text-align: right;"><span style="font-size: 14pt;">قاصّة سورية مقيمة في برلين صدر لها ثلاث مجموعات قصص قصيرة: آدم يكره (2008)، كيف تم اختراع اللغة الألمانية<span style="font-family: georgia, palatino, serif;"> <span id="docs-internal-guid-d34500b9-7fff-7c50-21b1-30f253a5bb74" style="caret-color: #000000; color: #000000; text-size-adjust: auto;"><span style="background-color: transparent; font-variant-east-asian: normal; vertical-align: baseline; white-space: pre-wrap;">(2017 دار 10/11 للنشر)</span></span></span>، ملخص ما جرى (</span><span style="background-color: transparent; font-family: georgia, palatino, serif; font-size: 14pt; white-space: pre-wrap; color: #000000; caret-color: #000000;">دار المتوسط</span><span style="font-size: 14pt;"> 2018). محررة القسم الثقافي ومنسقة ملحق هامش الثقافي في موقع الجمهورية. من مواليد 1984 نشأت في دمشق متلقيةً تربية فاضلة أدت إلى هذه النتيجة، ومن ثم تتلمذت على يد خيرةٍ من الخبراء في الصحافة الستالينية في قسم الإعلام في جامعة دمشق قبل أن يتم فصلها من الجامعة عام 2007، استهلت مسيرتها الصحفية والخيالية معاً بتأليف الجرائم وسلاسل قصص الجواسيس في جريدة حوادث محلية في دمشق، لها مساهمات صحفية وأدبية في مواقع ومطبوعات عربية وغيرها منذ عام 2005 وحتى تاريخه.</span></p>

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.