RR

الطلب لا يملي الإنتاج: الاقتصاد السياسي للفن المعاصر المشرقي

حنان طوقان، ترجمها من الانجليزية زياد شكرون

في ما يلي مقتطفات من كتاب حنان طوقان The Politics of Art: Dissent and Cultural Diplomacy in Lebanon, Palestine, and) Jordan (2021))، الذي تتناول فيه فكرة بروز جيل جديد من الفنانين المفاهيميين في الشرق الأوسط العربي خلال العقود الثلاثة الماضية. استناداً إلى بحوث إثنوغرافية أجرتها في عمّان وبيروت ورام الله، تحدّد طوقان الوظائف السياسية والاجتماعية للمنظمات والمبادرات الفنية المتشابكة عالمياً والمموَّلة دولياً، وتشير إلى كيف يمكن أن يساهم الإنتاج الفني الذي يجري ضمن الأطر العالمية في تمكين وتعزيز دور البُنى والهيئات المهيمنة، حتى وإن كان يرمي إلى انتقادها، أو كيف يكون في بعض الأحيان مضاداً لتلك الهيمنة حتى وإن بدا عكس ذلك. لا يقترح الكتاب الذي أُخِذت منه هذه المقتطفات مقاربة جديدة لقراءة الممارسات الفنيّة بأطوارها العالمية فحسب، بل يقرأ أيضاً السياسات المحلية في المنطقة من منظور محدّد وخاص، أي منظور الفن.

1. عن الحروب الثقافية وسياسة الديبلوماسية

يُعتَبَر “التمويل الأجنبي” المصطلح الأكثر تداولاً في الخطاب العام المعاصر للمنتجين الثقافيين والمموّلين والناشطين في فلسطين ولبنان والأردن. ويشير المصطلح إلى مجموعة من الأسئلة التي طرحها وناقشها مراراً عاملون في جمعيات المجتمع المدني في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يتمحور هذا النّقاش حول أيجابيات وسلبيات قبول التمويل من المنظمات الأجنبية، لا سيما الغربية، سواء كانت حكومية أو غير حكومية.[1]Pratt, Nicola. 2006. “Human Rights NGOs and the ‘Foreign Funding Debate’ in Egypt.” In Human Rights in the Arab World, edited by Anthony Tirado-Chase and Amr Hamzawy, 114–26. Philadelphia: … Continue reading

والحال أنّ مصطلح “التمويل الأجنبي” في اللغة العربية هو في حدّ ذاته مصطلح غارق في تاريخ إمبريالي ونيوليبرالي سحيق، في حين أن الترجمة الإنجليزية للمصطلح (foreign funding) تبقى محايدة وغير منحازة. وعلى حدّ تعبير نيكولا برات، "لا يتعلّق النقاش حول التمويل الأجنبي بالمسائل المالية للمنظّمات غير الحكومية، بل بهوية المموّلين (أي المنظّمات الموجودة في "الغرب”)".[2] ibid.114 نجد في صلب هذا النقاش أيضاً مصطلح “الأجندات الغربية" أو " الأجندات الأجنبية”، أي أن الأمر لا يتعلّق بكمية الأموال التي يقدّمها المموّل للمستفيد المحلي، بل بما يتمّ تنفيذه بواسطة تلك الأموال، وتحديداً بمدى تأثير علاقات السلطة وموازين القوى القائمة بينهما على الإنتاج الفنيّ، إذ تتضمّن تلك العلاقات شروطاً تعطي الأولوية لمصالح الممول على حساب مصالح المستفيد. بهذا المعنى، ليس النقاش حول التمويل الثقافي الأجنبي أو الغربي – غالباً ما يُستخدَم المصطلحَين بالتبادل في النقاشات العامة—نقاشاً تجريبياً اختباريّاً قائماً على حقائق موضوعية حول تأثير التمويل الدولي على المنظمات غير الحكومية المحلية، بل إنه يعكس العلاقة التاريخية بين العالم العربي والغرب.

يتمّ تعريف هذه العلاقة مع الغرب من خلال خطاب يدور في فلك الأفكار المتعلّقة بتمثيلات وهويات تشكّل في جوهرها الحصيلة الثانوية لمئتَي عام من المواجهات الاستعمارية بين العالم العربي والغرب. في مجال الفنون، هناك خلاف حادّ حول كيف تتجسّد علاقات القوة غير المتكافئة هذه بين المموّل والمستفيد. ما أعنيه هو كيف أن المستفيدين من التمويل، سواء كانوا فنانين أو مبادرات داعمة للفن تعمل كـ”وسيط” ذي مصالح سياسيّة في المنطقة، يلعبون دوراً أساسياً في صياغة الممارسات الجمالية والشكليّة للإنتاج الثقافي. وبالتالي، كيف لهذه المبادرات أن تؤثّر على طريقة فهمنا لدور الفنان كصوت نقديّ وأساسي للتغيير في المجتمع؟

ورثت جميع الدول العربية من الاستعمار أشكالاً مختلفة من المعرفة والتكنولوجيا. وعندما انتهى الاستعمار رسمياً، خلّف وراءه إرثاً ثقافياً وفكرياً مركّباً ومتشابكاً لا يزال العالم العربي في طور فهمه حتى اليوم. فالصراع التاريخي المستمرّ التي تعاني منه المنطقة في العلاقة مع الهوية والذاكرة والرؤى العالمية المتعددة والسرديات المرتبطة بها – سواء أكانت دينية أو علمانية أو قومية أو اشتراكية أو ليبرالية أو أممية أو عالمية – يعني أن الإنتاج والتمثيل الثقافي، سواء كان موجّهاً للجمهور المحلي أو العالمي، لا بدّ أن يكون في حالة نزاع. 

وبدورها، تقود هذه السياسات الخلافيّة للإنتاج الفني إلى الاشتباك مع الممارسات الثقافية المنسوبة للغرب. كان هذا حال الشعرية الحداثية التي سعت إلى إعادة تشكيل الهوية الثقافية عن طريق الاستعارة من الجماليات الغربية وإعادة تكييفها بهدف التأكيد على تَوقٍ إلى هوية وطنيّة محليّة.[3] Salamé, Ghassan. 1987. The Foundations of the Arab State: Nation, State, and Integration in the Arab World. Vol. 1. London: Routledge, 158. لذا، لا يُعنى الخطاب الجِدالي للإنتاج الثقافي بالجهات العربيّة فقط، فالفاعلون الدوليّون الذين يمثّلون اتجاهات جيوسياسية إقليمية وعالمية أوسع نطاقاً، يُثبتون حضورهم من خلال تمويلاتهم ورؤاهم وخطاباتهم الخاصّة. وتماماً كالفاعلين العرب المحليين، هم يفرضون أنفسهم، بشكل مباشر وغير مباشر، من خلال تقاطعات مl عقّدة ومتشابكة للطوائف والطبقات الاجتماعيّة والجغرافيات السياسية. إن الجدل القائم حول ظروف انتاج الفنون المعاصرة – والمُصاغ على أنه يدور ضمن إطار نقاش تاريخي أكثر اتساعاً - يتعلّق بمشكلة الشعرية الحداثية الطليعية التي ينظر إليها بعض الفاعلين المحليين على أنها “غربيّة” جداً – يصبح هو الوسيط الذي تعبّر من خلاله الأيديولوجيات المختلفة عن نفسها وتتحدّى بعضها البعض استجابةً للجماليات التجريبية.

يقول دانيال درينان إنّ "في بيروت، تُدرِج لائحة الجهات الداعمة لأي حدث ثقافي، وبكل فخر، أسماء المصارف والشّركات والمنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تجعل مثل هذا الاستيراد للثقافات الخارجية وترسيخها ممكناً. ويبدو أن أحداً لا يُمانع ذلك".[4]Drennan, Daniel. 2010. “A Black Panther in Beirut.” Counterpunch. https://www.coun- terpunch.org/2010/01/13/a-black-panther-in-beirut/. تجسّد تلك الملاحظة الطريقة التي يتمّ عبرها موضعة فن الجنوب العالمي، بطريقةٍ ممنهجة، في إطار القوميّة التي نشأت على أنقاض الاستعمار من جهة، وكنتيجة لليبرالية المُغَرَّبة من جهة أخرى. لذلك، تكثر مفاهيم “الاستيراد” و"والغرس” في النقاشات حول الإنتاج الثقافي وحول مفهوم “الأصالة” في العالم العربي الحديث.[5]2002. “Contemporary Arab Representations, Beirut/LebanonSunday 15 September—Sunday 24 November 2002.” Witte de With Center for Contemporary Art. … Continue reading ومع ذلك، تبقى هذه المقاربات متوارثة من الجدل السائد حول ثنائية التقليد والحداثة، والتي ترفض بسهولة التفسيرات البديلة والممكنة لهذه التوترات. لكن يمكن القول إن الحداثة ليست دائماً إلزاماً فظاً أو “تَماهياً زائفاً”،[6]Sadek, Walid. 2008. “Peddling Time When Standing Still; Art Remains in Lebanon and the Globalization That Was.” October 13, 2008. http://www.ghassansalhab.com/press/ … Continue reading وإن الفاعلين الثقافيين المعاصرين في فلسطين ولبنان والأردن ليسوا ذوات ما بعد استعماريّة مستسلمة وتابعة.

يشكّل العاملون في المجال الثقافي والفني عناصر فعّالة تشارك في تحديد معالم النقاش الذي يتمّ من خلاله تعريف الإنتاج الثقافي وتقديمه. لهذا، فإن التفسيرات البديلة لهذه الثنائية المركّبة التي لاحظتُها في هذا المجال تعتمد على نمط من النقد يتفادى الأُطُر الراسخة للأنظمة الثقافيّة ويقترح إعادة صياغة هذه الثنائيات من خلال استيعاب الوضع كما هو “مُعاش”. تتبادر إلى ذهني هنا قراءة ريموند ويليامز لمفهوم الهيمنة بوصفها عملية “مُعاشة” تتطلّب تجديداً وتعديلاً دائمين، بدلاً من كونها هيكليّة أو نظاماً جامداً يفسح المجال أمام تشكّل حركة مقاومة قابلة للحياة.[7]Williams, Raymond. 1977. Marxism and Literature. New York: Oxford University Press. 

إنّ منطق إيلا شوحط، الذي يؤكد على الحاجة إلى تبيان وتفسير الطرق المختلفة التي يواجه بها “الرعايا” امبراطوريتهم، يساعدنا في التفكير فيما تستلزمه هذه التجربة “المُعاشة” للهيمنة.[8] Shohat, Ellah. 1993. “Notes on the ‘Post-Colonial.’” Social Text 31–32: 99–11 مقاربة شوحط وثيقة الصلة بالموضوع لأن الجغرافيا السياسية المعاصرة في العالم العربي لا تزال تؤثّر على “المواجهة” مع الحداثة “الغربية” على أساس الطبقة الاجتماعيّة والجنس والتحصيل العلمي والدين والمذهب والعقيدة، أي التصنيفات التي تدلّ على انقسام المجتمعات المدنية وتجزُّئها. نرى أن تأثير هذه الظاهرة على عالم الفن المعاصر حادّ وقوي بشكل بارز. ما اختبرتُه في المدن الثلاث التي أجريت فيها عملاً ميدانياً كان نخبة ثقافية مدينية مدركة جيداً للقيود الهيكلية التي تحدّها ولانتمائها إلى الجنوب العالمي. مع ذلك، وفي الوقت نفسه، لعبت هذه النخبة دوراً واعياً في تثبيت دورها تجاه هيمنة ثقافية دائمة التبدّل، عن طريق مفاوضات واعية أفضت إما عن قبول أو رفض أو تعديل ما تستوجبه “مواجهة” الشمال العالمي. لذلك أقول، وفي نفس المنحى الذي تأخذه كريستين سيلفستر، إن القوة السياسية للفن هي واحدة من أدوات العلاقات الدولية التي تنشط "حيث لا نتوقّعها".[9]Sylvester, Christine. 2009. Art/Museums: International Relations Where We Least Expect It. Boulder, CO: Paradigm. أقول إن التعتيم على دور وهدف وإمكانات الإنتاج الثقافي في المجال غير الحكومي لمنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الفنون والثقافة قد أثّر على الطرق التي ينظر فيها المموّلون الثقافيون النيوليبراليون العالميون في المنطقة، كما المستفيدون الإثنين والأربعون من هذه المِنَح، إلى دورهم كوسطاء في العلاقة مع ديناميات السلطة الأكبر في العقد الأول من الألفية الثالثة.

2.  فنّ ما بعد الحرب

كاثرين ديفيد هي قيّمة فنيّة فرنسية بارزة ومؤثرة دولياً، ولديها اهتمام كبير بالإنتاج الفني المعاصر في مدينة بيروت. في العام 2002، ألقت ديفيد محاضرة في بيروت ضمن إطار “أشغال داخلية: منتدى عن الممارسات الثقافية”، عرّفت فيها الحضور الذي كانت غالبيته من اللبنانيين، على فكر جاك رانسيير، بالإضافة إلى أنماط المشهد الفني العالمي في ذلك الوقت، دون أن يعني ذلك أن الجمهور لم يكن على معرفة مسبقة بالفيلسوف الفرنسي وبأفكاره حول علاقة الجمالي والسياسي.

مع ذلك، تؤكّد ديفيد في محاضرتها المؤثّرة والمخصّصة لمدينة بيروت، على وجود نمط جمالي معين للإنتاج كانت قد استثمرت فيه شخصياً في ذلك الوقت، سواءً من الناحية التنظيمية أو الفكرية، بوصفه معاصراً ونقدياً وهامشياً وتجريبياً ومُضاداً للهيمنة، أو بكلماتها هي "إلى حد ما، ما يُفهم عموماً على أنه إنتاج فنّي معاصر".[10]“Contemporary Arab Representations, Beirut/LebanonSunday 15 September—Sunday 24 November 2002.” Witte de With Center for Contemporary Art. … Continue reading يطرح مفهوم كاثرين ديفيد عن “السياسي”– بصفته تقويضاً وليس نضالاً كما ينصّ مفهوم رانسيير للسياسة والجمال – سؤالاً حول الطريقة التي عُرِّف بها ما هو “سياسي” مع تغيّر سياسات فترة ما بعد الحرب الأهلية وما بعد الحرب الباردة التي مكّنته من الظهور. بالنظر إلى تصوّر رانسيير للجماليات كممارسة في السياسة – وهما مجالان يرى أنهما مترابطان بطبيعتهما – يجدر بنا أيضاً أن نتفكّر في كيفية ظهور هذا الفن النقدي الذي تؤكّد عليه ديفيد في السياق البيروتي. بعد سنوات قليلة من إلقاء ديفيد لمحاضرتها، قامت “الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية” (أشكال ألوان) بدعوة جاك رانسيير إلى بيروت بهدف التفكير بتناقضات الفن السياسي وشرحها.

قدّم نُقّاد العقد الأول من الألفية قراءات واسعة حول كيف سعى فنانون لبنانيون لمع اسمهم دولياً بعد عام 1990، مثل وليد رعد وأكرم زعتري ولمياء جريج، إلى التشويش على السرديات البيانية للتاريخ، وذلك من خلال أعمالهم الأرشيفية والالتباس الشعري الذي تتقاطع فيه الحقيقة بالخيال. كان للتركيز الفريد على هذا الجانب من إنتاجهم أثر في وصف المشهد الأكبر الذي ينتمي إليه هؤلاء الفنانون بوصفهم طليعيين ومعارضين دائمين، وبالتالي مقاومين للهيمنة. أصبحت هذه المجموعة من فناني ما بعد الحرب في لبنان معروفة بتفانيها وتركيزها الواسع على خلق مداخلات نقدية حول ذاكرة العنف في مجتمعها وحول دور الأرشيف في إعادة التفكير في ما يُسمّى حقبة ما بعد الحرب. 

غابت عن هذه المداخلات النقدية التي غَدَت صريحة وواضحة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، محاوَلةٌ متماسكة لتفكيك ظروف صناعة هذا المشهد الفني، وعولمته بشكل أخصّ. لكن، ما هي الديناميكيات الهيكلية التي صاغت شكل الإنتاج الفني في أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين عندما وطّد المشهد الفني نفسه في فترة ما بعد الحرب الأهلية ضمن إطار مرجعي معولَم ونيوليبرالي؟ وتحديداً، كيف ساهمت المنصات الفنية المحلية المعولمَة، مثل المهرجانات والمؤتمرات والمعارض، في الخطابات المحلية حول دور الفن في زمن أعقاب العنف؟

في بيروت أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان الفنانون الذين مآلات فترة ما بعد الحرب الأهليّة قد بدأوا العمل على تأسيس منظّمات—بعضها وهميّ (مثل مجموعة أطلس) وبعضها الآخر حقيقي (مثل المؤسسة العربيّة للصورة)—بهدف إيجاد وسائل بديلة للحصول على السجلات التاريخية وتداولها قرائتها. استلهم الفنانون والقيّمون والنقاد الذين يقودون هذه المنظمات الثقافية إلى حد كبير من المقاربات التفكيكية في كتاب حمّى الأرشيف الفرويدي للفيلسوف جاك دريدا الذي صاغ الروح والجماليّة المهيمنة على عالم الفن المعاصر العالمي في تلك الفترة، فتناول فكرة الأرشيف بنفس الطريقة التي تناولوا فيها التاريخ: مجزئاً وغير بياني، تدفعه الذاكرة.

كانت الأبعاد الوهمية لبعض الأعمال التي تشرّبت المنطق التفكيكي—مثل Objects of War للفنانة لميا جريج و Wonder Beirut (Fig. 1) لـ جوانا حاجي توما وخليل جريج—تتطلّب ثقة خاصة من جمهورها، وهو مطلب كبير خصوصاً وأن خيبة الأمل كانت، هي أيضاً، وبشكل واضح، جزءاً من العمل. بناءً على المقاربة التي أجراها الفنانون في تلك الفترة، يمكن قراءة الأرشيف كتعبير مضادّ لحالة فقدان الذاكرة التي تبنّتها الدولة في فترة ما بعد الحرب. فالتركيز على الأرشيف كمقاربة فنية قوّض الحنينَ إلى صورة بيروت بصفتها باريس الشرق الأوسط والعاصمة العالمية الأنيقة التي روّج لها الخطاب الرسمي، ممّا صرف الانتباه عن الحاجة الحقيقية للعدالة الانتقالية القائمة على الحقيقة والمصالحة. هكذا، يمكن قراءة النزعة الأرشيفيّة في بيروت، والتي ظهرت مع العمران المدني في عهد رفيق الحريري، على أنها انعكاس للفن العالمي والمساهمة في نزعته الارشيفية كشكل من أشكال المعرفة البديلة الراديكالية.

Figure 1. Joanna Hadjithomas and Khalil Joreige, Wonder Beirut: The Story of a Pyromaniac Photographer. Part I of the project Wonder Beirut (1997-2006). Mixed media (Postcard detail). Courtesy of the artist.
Figure 1. Joanna Hadjithomas and Khalil Joreige, Wonder Beirut: The Story of a Pyromaniac Photographer. Part I of the project Wonder Beirut (1997-2006). Mixed media (Postcard detail). Courtesy of the artist.

انتشرت أعمال فناني ما بعد الحرب المعاصرين في مدينة بيروت في محاولة للكشف عن الجماليات التي تكشّفت عن حربها الأهلية. غير أنه كلما ازداد انتشار هذا التصور حول التجارب المشتركة والمساحات العامة بعد الحرب على الصعيد العالمي، احتدّ انتقاده من قبل من كانوا من المفترض أن يشكلوا أساس السياق الذي نشأت منه تلك الأعمال. يذكر وليد صادق كيف أن في وقت مبكر يعود للعام 2003، كان هناك "تضخّم للفن اللبناني المعاصر على الصعيد العالمي، إلّا أن الانتشار الدولي المتزايد لهذا الفن لاقى صدىً ضئيلاً على الصعيد المحلي".[11]Sadek, Walid. 2008. “Peddling Time When Standing Still; Art Remains in Lebanon and the Globalization That Was.” October 13, 2008. http://www.ghassansalhab.com/press/ … Continue reading تقول شانتال موف إن "الأماكن العامة دائماً ما تكون تعددّية، حيث تحصل المواجهة الجداليّة على مستويات خطابية متعدّدة". من الناحية النظرية، يمكن لهذا المفهوم أن يضيء على التناقضات التي يصفها صادق، إلّا أن تداعيات الانقسامات في لبنان، القائمة على الطائفية والتي تعزّزها الطبقية والجغرافيا المادية المنقسمة، إمتدّت إلى الحيّز الذي يسمّي نفسه بالعلماني والليبرالي للمجتمع المدني والذي وفّر منصّة لازدهار النقاشات التي كانت تحصل داخل المشهد الفني. يعني هذا أنه حتى بالنسبة للجمهور الذي تتناوله تلك الأعمال وتتوجّه إليه، فإن رؤية تلك الأعمال والتعرف عليها يبقى منوطاً بالرأس المال الثقافي والانتماء الطبقي وخطابات الهوية الثقافية والسياسية العالمية التي تكتنفها.

 3. فنّ ما بعد الحرب في العالم

على الرغم من أن العديد من المنظّمات والمبادرات المكرَّسة للمجال الفني قد ساهمت في دعم ونشر أعمال هؤلاء الفنانين، وخاصة في المراحل الأولى من حياتهم المهنية، إلا أن الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية”(أشكال ألوان) أصبحت الأكثر ارتباطاً بهؤلاء الفنانين ومشاريعهم. تأسّست الجمعية في العام 1995 على يد كريستين طعمة وعدد من أصدقائها. لا تزال طعمة، المعروفة بكونها شخصية نشطة وفعّالة في المجال التنظيم الفني بين ممثّلي عالم الفن المعاصر الأجانب والمموّلين المحليين، تشغل منصب مديرة أشكال ألوان. من خلال منتدى الممارسات الثقافية الذي تعقده الجمعية كل سنتين، واتصالها الوثيق مع مؤسسة فورد في المقام الأول وتلقّيها الدعم اللازم منها بشكل ثابت، ومن خلال شبكاتها النّشِطة مع المانحين الثقافيين الدوليين الآخرين، تمكّنت أشكال ألوان من تكريس مكانتها في مجال الفن العالمي. 

كانت الجمعية تعرض الأعمال وتحثّ على إجراء النقاشات حول الفضاءات العامة والذاكرة والأرشيف منذ وقت مبكر من منتصف التسعينيات، إلا أنها برزت على المستوى الدولي إلى جانب مجموعة من الفنانين من خلال برنامج فضاء أشغال داخلية الذي قدّمت له مؤسسة فورد الرعاية في دورته الأولى في العام 2002. وفقاً لبعض المتحدّثين في هذا المجال، كان هذا المنعطف هو الذي أدّى بالجمعية إلى النأي بنفسها عن النقاشات العامة في بيروت وتوجيه نظرها إلى الجمهور العالمي خارج لبنان. سواءً كان انخراط أشكال ألوان في منصة أكثر عالمية هو السبب وراء انسحابها الملحوظ من النقاشات العامة محلياً أم لا، فإن ما حقّقته الجمعية في هذه العملية هو تعريف الجمهور اللبناني والفنانين اللبنانيين ونظرائهم في عمّان ورام الله على عوالم يتقاطع فيها المحاضرون والمفكرون والكتّاب والسينمائيون. وقد انخرطت هذه الجهات الفاعلة في بعض المناقشات الأكثر أهمية على المستوى العالمي، كما طوّرت فرصاً لتبادل الموارد بين بلدان الجنوب وساهمت في إنهاء الاستعمار في مجال الإنتاج المعرفي أثناء ذلك.

ألقَت تلك الملاحظات الضوء على الطريقة التي يمكن بها لبعض لانحيازات الشكلية، التي كانت تنظر في أوائل العقد الأول من القرن إلى الرسم والنحت على أنهما من بقايا الماضي، أن تؤثّر على فهم القيّمين والنُّقاد الغربيين للسياق متعدد الأوجه الذي كان يُنتَج فيه ما رأوه “فناً معاصراً”. قد تساعد هذه المعاينات أيضاً في شرح كيف ولماذا أصبحت الأعمال المضادة للهيمنة، التي كانت تحصل في مساحة هامشية، في صميم اهتمام القيّمين والنُّقاد بعد أوائل العقد الأول من القرن، بينما استمرّت في كونها المجاز الذي يحدّد أعمالهم ويؤطّرها حتى بعد أن بدأ الفنانون "يتمتّعون بقبول على الصعيدين المحلي والدولي".[12] Rogers, Sarah. 2008. “Post-War Art and the Historical Roots of Beirut’s Cosmopolitanism.” PhD diss., Massachusetts Institute of Technology, p. 44.

على مدار الخمسة عشر عاماً السابقة وحتى اليوم، شارك فنّانو ما بعد الحرب وبشكل متزايد، وعبر مجموعة متنوعة من الوسائل، في مجال الفن العالمي. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قُدِّمت أعمالهم في العديد من المعارض الدولية، كما أثارت المقالات والقراءات اهتماماً تجاه لبنان في دائرة الفنون العالمية. غالباً ما كان الأكاديميون والنقاد المقيمين في المؤسسات الثقافية الغربية هم من يكتبون تلك المقالات، لكن الفنانين أنفسهم ساهموا أيضاً في المجلات العلمية وتلك المخصّصة للنقد الفني وفي كتالوجات المعارض من خلال الكتابة عن أعمالهم وعن المعاني الكامنة وراءها.

ازدهر الفن العالمي وسط ثورة إعلامية، بعد إزاحة عواصم الفن الغربية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. عندها، حصل العديد من الفنانين الذين ينتمون إلى “أعراق” و"ثقافات” مختلفة من الدول النامية والذين كان قد تم تجاهلهم لفترة طويلة في عالم الفن الغربي السائد، على الاعتراف لأول مرة من قبل النقاد الغربيين، وأصبحوا قادرين على التمتّع بنجاح تجاري من خلال المعارض متعددة الثقافات  والعروض الجماعية (Fig. 2).[13] Stallabras, Julian. 2004. Art Incorporated: The Story of Contemporary Art. Oxford: Oxford University Press, p. 10-15.

أياً كان شكل الانتماء الطبقي المُتَصوَّر هنا، فإن الشعور الذي يبقى متأصلاً فيه هو افتراضٌ محتوم لمستوى معين من رأس المال الثقافي والاجتماعي، وبالتالي نزعةٌ نحو الترقي داخل دائرة الفن المعولم. في المجتمعات المتشعبة حيث تحدّد الطبقة الاجتماعية إلى حد كبير مستوى الثقافة وقدرة الوصول إلى المعلومات، وضعت هذه السمات منذ البداية بعضَ الفنانين والمنظمات أو المبادرات الداعمة لهم في وضع يمكّنهم من الاستفادة من الاهتمام الجديد لسوق الفن العالمي بالإنتاج الفني اللبناني. على سبيل المثال، تميل معظم دعوات تقديم المقترحات الصادرة عن هيئات التمويل إلى اعتماد اللغة الإنجليزية، مما يؤدي على الفور إلى استبعاد عدد كبير من الفنانين المحليين غير المعروفين في المجال “العالمي”. يحضرنا هنا تحليل أحد النقّاد الفنيين ومفاده أن العديد من الفنانين الذين كانوا جزءاً من هذه المبادرة كانوا يستخدمون لغةً ووسائط جمالية يفهمها مؤرخو الفن الغربيون ويحيطون بها.

هناك نقطة أخرى بارزة في الفن اللبناني في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف هي أن معظم الفنانين كانوا على دراية جيدة بالفن الغربي المعاصر. لذلك كان الشكل، وليس بالضرورة المحتوى، هو غالباً نقطة التواصل مع الجمهور الغربي. أعرف بعض الحالات التي سمح فيها الإلمام بالشكل بنوع من التأويل الذي لا يمت بصلة إلى العمل نفسه أو السّياق الذي أُنتِجَ فيه على الإطلاق.

لقد تغيّر الفعل المعارض والمُنشَق في الفن كما تغيرت كيفية صياغة الفاعلين الفنيين له كجزء من كُلٍّ أكبر مضاد للهيمنة، على الرغم من أن هؤلاء الفاعلين بدوا غير مدركين للديناميكيات التاريخية والسياسية التي أطرت ممارساتهم، فانهمكوا بشكل مفرط في محاولة تفسيرها نظريّاً. فهمت كاثرين ديفيد جماليات ما بعد الحرب بوجه عام من خلال إمكانيات هذه الجماليات الانفعالية، قائلةً إنها "مضادٌ لليأس... وأملٌ في طاقته السياسية والثقافية".[14]David ibid. 37. كما رأى آخرون، مثل المنظِّرة السينمائية لورا ماركس، أن "مشهد الفن المستقل في بيروت هو واحد من أقوى الأصوات النقدية في المشهد السياسي اللبناني المعاصر".[15] Marks, Laura U. 2004. “The Ethical Presenter or How to Have Good Arguments Over Dinner.” Moving Image, 4 (1): 34–47.p. 46 وعلى نحو مماثل، أوضح الكاتب والناقد ستيفن رايت عام ٢٠٠٦ أنه "بما أن الانخراط السياسي غير ممكن حالياً، فإن الفنانين يميلون إلى المساهمة في مجال الأفكار، بوصفه مجالاً مستقلاً نسبياً".[16]Wright, Stephen. 2006. “Territories of Difference: Excerpts from an Email Exchange between Tony Chakar, Bilal Khbeiz and Walid Sadeq.” In Out of Beirut, edited by Suzanne Cotter. Oxford: Modern … Continue reading 

ظهر نوع آخر من المقاربات عزّز الفن التقويضي المحلّي عبر نعته بـ “فن الاندرجراوند”.[17]Falconer, Morgan. 2006. “The Long and Wounding Road.” Times, May 2, 2006. وقد امتدّت تلك المقاربة إلى الأيام الأولى من الانتفاضات العربية بين عاميّ ٢٠١١-٢٠١٢ عندما استلهم الصحفيون مما كان يحدث في شوارع القاهرة وتونس ومن الدفق في التعبير الفني من الأسفل إلى الأعلى هناك، فقاموا بوصف الفنانين اللبنانيين من فترة ما بعد الحرب، والذين كانوا منخرطين بشكل مريح بالدوائر الفنية العالمية ويعرضون أعمالهم في العواصم الغربية، على أنهم بدأوا “ثورات إبداعيّة”.[18]Allsop, Laura. 2011. “Rabi‘ Mroue, the Lebanese Artist Starting a Creative Rebellion.” CNN, April 12, 2011. http://edition.cnn.com/2011/WORLD/meast/04/05/lebanon. artist.mroue/index.html. كانت النظريات الأخرى أكثر دقة؛ فأوضحت، على سبيل المثال، أنماط التمثيل التي اختارها الفنانون من خلال قراءة الهامشية في أعمالهم، كاللعب على مفهوم الحقيقة من خلال عبور حدود معرفية تتقاطع بين الدراسات الإعلامية والثقافات المرئية والنظريّة النقديّة، كممارسات سياسية تسعى لتحطيم حدود الفنّ في العمليات التي تستدعي "التهريب" باعتباره "الأداء السريّ للغرض الممنوع".[19] Harvey, Simon. 2006. “Smuggling Practices into the Image of Beirut.” In Out of Beirut, edited by Suzanne Cotter. Oxford: Modern Art Oxford, p. 40

Figure 2. Lamia Joreige. Objects of War. 1999-Ongoing. Installation view of exhibition at Tate Modern, 2011-2012 (Permanent Collection). Copyright of the artist.
Figure 2. Lamia Joreige. Objects of War. 1999-Ongoing. Installation view of exhibition at Tate Modern, 2011-2012 (Permanent Collection). Copyright of the artist.

على الرغم من تنوّع القراءات، عما إذا كان السياسي عنصراً فاعلاً، كما تبيّن المراجع الثلاثة السابقة، أو لحظةً سياسيّة مقاوِمة مكشوفة ضمن النطاق العالمي، كان هناك افتراض ضمنيّ بأن الحيز الجغرافي الهامشي للفئات الفاعلة في مشهد ما بعد الحرب قد أخرج إلى السطح "شكوكاً" تتعلّق بتمثيلات الصّراع. وهذه الشكوك التي تطمس الحدود بين الحقيقة والخيال وبين الفن واللا فن، قد قُرئت على أنها ضرورية في المجتمعات "التي تحدّدها التناقضات السياسية المنبثقة من يقين أديولوجي"، وذلك لأن اللجوء إلى الشك "يمهّد الطريق لإرساء روابط سياسية بديلة".[20]Faulkner, Simon. 2003. “‘Asylum Seekers,’ Imagined Geography and Visual Culture.” Visual Culture in Britain, April 2003.

واللافت أن قراءة المشهد المضاد للهيمنة الفنية من خلال جماليته الملتبسة يقدّم مقاربة أخرى تحصر أعمال الفنانين بين “إمبرياليّة صليبية” من جهة و”تشدد إسلامي عابر للحدود العالمية” من جهة أخرى، مع رفض الخضوع لأي من المذهبين في استكشاف الصورة كوسيلة لتصوير الصراع.[21]Demos, T. J. 2008. “Image Wars.” In Zones of Conflict: Rethinking Contemporary Art During Global Crisis, 3–11. New York: Pratt Manhattan Gallery. تأوّل هذه الأطر الأعمال ليس بالإستناد إلى سياقاتها الخاصة، بل بارتباطها بالمتفرّج العالمي والمؤسسات الفنية. وفقاً لهذا المنطق، فإنّ عملية الإنتاج التي تندرج ضمنها هذه الأعمال، والأعمال عينها، مضادة للهيمنة لأنها تمثّل المحتوى السياسي بصرياً ونظرياً بطريقة يألفها جمهور الفنّ العالمي، وليس لأنها تخاطب المؤسسات المهيمنة الفاعلة في نطاق الفن العالمي التي تؤثر بشكل مباشر على الطريقة التي يُنفَّذ عبرها الإنتاج على الصعيد المحلّي ويُنقَل بعدها إلى معارض أخرى.

ونظراً إلى أن معظم هذه العروض قد جُهّزت من قبل جهات فنية ثقافية فاعلة تنشط بعيداً من عواصم الفنّ الغربية، فإن ما نتج عنها غالباً كان وجهة نظر مناطقية تعتمد على الأساليب الغربية لتفسير وفهم الفن بالإحالة على علاقته مع ثقافته. وقد كانت النتيجة أن عدداً من الأعمال لشلّة صغيرة من الفنانين (شكّل فنانو ما بعد الحرب جزءاً مرئياً وملحوظاً منها) قد أعيد تدويرها في معارض أماكن عديدة. كما لاحظ البعض، لقد تمّ هذا على حساب تجاهل أعمال فنانين آخرين أساسيين في مجالات الإعلام الجديد والتصوير الفوتوغرافي والتجهيز، وكذلك على حساب استبعاد جزء كبير من الفنانين في المنطقة ممن لا يزالون يمارسون الرسم والنحت.[22]Farhat, Maymanat. 2009a. “Circuit Breaking: New Approaches to Art in the Arab World.” Contemporary Practices: Visual Arts from the Middle East 4. http://www.contemporarypractices.net/index.html.

4. عودة إلى بيروت

أفصح بعض الأشخاص الذين لم يساهموا في المشهد الفني بعد الحرب أو الشبكات والمنظمات الدّاعمة له، عن عدم ارتياحهم تجاه الأعمال المتعلّقة بالحرب الأهلية والتي عُرِضت في دوائر الفنون العالمية، حتى لو استعانت بالمحلي في سبيل الإحاطة بمسائل عالمية تتعلق بالحرب والذاكرة ومعاودة التفكير في التاريخ المناطقي. أما سؤال الجماليات فقد كان مغيّباً بشكل شبه كلي في هذه المحادثات، فالأعمال كانت تُقرأ تلقفها على أنها نوع من النقد أو التحليل للسياق السياسي لا غير. 

إن الحاجة إلى إنتاج أعمال عن الحرب ليست محددة بشكل جوهري بأهواء الجمهور الغربي والقيّمين كما كان يُعتقد على نطاق واسع. كما أنها لا تتعلّق بالسبب الذي حثّ العديد ممن تمت مقابلتهم على الإفصاح عن عدم ارتياحم لسياسة التمثيل السائدة. فنانو ما بعد الحرب هم في الأساس جزء كبير من حركة أوسع بكثير من فناني ومثقفي البلد وهم على قناعة بأن لبنان، وفي سبيل المضي قدماً، بحاجة إلى معالجة ما ترتّب عن الحرب الأهلية بطريقة تتجاوز أنموذج “ننسى دون أن نسامح” الذي ما يزال حتى يومنا هذا في صلب الخطاب الذي يحكم البلد. ومع هذا، يتمّ اعداد الأعمال المتعلقة بالحرب الأهلية والمرتبطة بجمعية أشكال ألوان وشبكاتها ومنصاتها العالمية والترويج لها—وهنا السخرية— لغرض واحد محدّد وهو الدخول إلى عالم الفن العالمي. 

هناك عدة مستويات تدلّ على المزج بين المعتقدات والممارسات المختلفة. يدلّ أولها على القلق من تمثيلات الحرب والصدمات بشكل عام والسياسات المثيرة للجدل التي تدور حولها. يتعلق الآخر بخصوصيات المكان الذي يضع الفن العالمي المعاصر نفسه فيه وكيفية مخاطبته لـ“الجمهور” المعني. أما المستوى الأخير، فيتعلّق بممارسات السلطة التي تفضّل بعض أنواع التمثيل على غيرها. في جوهرها، تدمج المقاربات النقدية لطرابلسي وغيره بين تقييم الفنون التي تعبّر عن الحرب وضرورة التفكير النقدي في معنى وآثار فن ما بعد الحرب فور حصوله على الاهتمام الدولي. وعليه، فإن القضية لا تتعلّق بإنتاج الأعمال الفنية المتعلقة بالحرب، بل بالسلطة التي تمنح بعض الأعمال دون غيرها مجالاً كي تصبح مرئية، فيما يتمّ في الوقت عينه إضفاء طابع إحتفالي على بعض الأعمال والعمليات الإنتاجية عوضاً عن تقييمها نقدياً.  

النقاشات التي خضتُها مع الفنانين والفاعلين الثقافيين المرتبطين بشكل مباشر بمشهد ما بعد الحرب عادةً ما تطرقت إلى تعبيرهم عن إلإحباط من كيفية تجاهل الجمهور المحلي لفاعلية الأعمال الفنية، تحديداً قدرتها على خلق ثقافة نظريّة وخطابات بناءة تتسم بالديناميكية والانفتاح على مجال مركب يشمل الحيز الاجتماعي والسياسي والإقتصادي. وعليه، فإن الحجج المطروحة من قبل بعض الفاعلين في المشهد الفني بعد الحرب تحثّ على قراءة تلك الأعمال والتعامل معها على أنها فن. وبحسب هذه الحجج، فإن أي تبادل بين الفن والجمهور عليه أن يساهم في انتاج خطابات ونظريات حول الفن بدلًا من حدّه في خطاب سياسات الإنتاج وديناميكية تطوراته السياسية. تسلّط هذه الفكرة الضوء على تصوّرَين لدور الفنّ: الدور البنيوي-المادي الذي يرتبط بالسياسات المؤسساتية للتمويل الفني بهدف التمثيل، مقابل الدور غير المادي الذي يهتمّ بالصفات الجمالية للفن وباستقلاليته. رأى ممثلو المشهد الفني في فترة ما بعد الحرب هذين التصورين على أنهما حجرا الأساس للولوج إلى جوهر النقاش حول المعنى الحقيقي للفنّ، وقد صيغا كخط تماس بين الخطابات الحداثوية والأخرى ما بعد الحداثوية.

إنّ التأريخ لموقفين أيديولوجيين متعارضين ظاهرياً حول الإنتاج الثقافي اللبناني، تحديداً ذلك المتمركز في بيروت، يحدّد مواقع القوة المختلفة الموجودة بين النخبة المثقفة في المدينة. بعبارة أخرى، يمكن قراءة الثنائيات التي يراد منها شرح السياسة في الفن مقابل سياسة الفن كمواقف جدالية مرتبطة أساساً بلحظة تاريخية مضطربة عايشتها البلاد في تاريخها المعاصر، وليس بوصفها مفاهيم نظرية فاعلة. تعقّد النظرية الأحادية هذه الأمور بدلاً من أن تشرحها، وبالتالي فإنها تؤدّي إلى “ثنائية معيارية شالّة”.[23] Rockhill, Gabriel. 2014. Radical History and the Politics of Art. New York: Columbia University Press.p. 120 يقترح دوجلاس كيلور أنه قد يكون ثمة “استمرارية” و”انقطاع” بين طوري المجتمع من خلال الرجوع إلى تصنيفات ريموند ويليامز للثقافات "التقليدية" و"المهيمنة" و"الناشئة".[24]Kellner, Douglas, 1990b. “The Postmodern Turn: Positions, Problems and Prospects.” In Frontiers of Social Theory: The New Synthesis, edited by George Ritzer. New York: Columbia University Press, … Continue reading إن مفهوم  رايموند ويليامز للثقافة، بوصفها مفاوضات نشطة ومستمرة خلال فترات يتحوّل فيها المجتمع بواسطة عمليات انتقائية، يفيدنا بشكل خاص هنا.[25]Williams, Raymond. 1977. Marxism and Literature. New York: Oxford University Press. تطرح علينا تلك المقاربة مزيداً من الأسئلة: لماذا لا يكون الخطاب حول الأعمال الفنية وطرق انتاجها منعكساً في الأطر البنوية التي تنشأ فيها، على أن تقدّم تلك الأعمال رؤية حول صياغة وتبني مسألة علاقة الفنّ بالسياسة؟

5. الخليج

إنّ ازدهارسوق الفنّ العربي في الخليج والذي تجسّد بشكل خاصّ عبر الدور المتنامي للإمارات، إلى جانب قطر، كمركز ثقافي للعالم العربي قد حجب الحدود بين الفن المعدّ للبيع فقط والآخر المعدّ كي يساهم في خطاب نقدي أوسع حول المجتمع والسياسة وعلاقة الفن بكلّ واحد منها. أوّلاً، يعتمد الفنانون المعاصرون المقيمون في مدن فاعلة ثقافياً مثل بيروت والقاهرة ودمشق وطهران بشكل متزايد على مدن مثل أبو ظبي والشارقة والدوحة كنافذة تجارية يطلّون بها على المشهد الفني الدولي على الرغم من أنّ وصفهم لتجاربهم يتفاوت بين الحماس الصريح، إلى الازدراء المباشر، وصولًا إلى الإحراج الناتج عن الخضوع للإمارات ودول الخليج نظراً إلى دورها الفاعل في استبدال العواصم الثقافية القديمة كبيروت وبغداد والقاهرة والحلول مكانها. ومع ذلك، حتّى الفنانين الأكثر تشاؤمًا، فإنهم يدركون كمّ الضوء الذي تسلّطه عليهم هذه المدن الناشئة ومقدار الانتشار الدولي الذي تمنحهم إياه مقارنة بالزمن الذي كان عليهم أن يتقدّموا فيه لمنح ودعوات من الولايات المتحدة وأوروبا.

في الخليج، يعرض فنانون معاصرون ونقديون فناً بديلاً ويفوزون بجوائز في أماكن تحدث فيها انتهاكات أساسية لحقوق الإنسان. وتجدر الإشارة هنا تحديداً إلى بينالي الشارقة العاشر، Plot for a Biennal، الذي كان قد افتُتح في سياق الإضطرابات التي شهدتها الانتفاضات العربية في ربيع ٢٠١١. خلال الفترة هذه، لبّت الإمارات طلباً قدّمه حكام البحرين السنّة إلى مجلس التعاون الخليجي يقتضي بإرسال قوات للمشاركة في حملة قمع حركة احتجاج أشعلتها الغالبية الشيعية ضد الممارسات القمعية للنظام. وبذلك أوضحت الأمارات العربية المتحدة موقفها الصارم تجاه قوى التغيير التقدّمي التي اجتاحت المنطقة. وعليه، عندما أرسلت الإمارات قوات لمساعدة الحكومة البحرينية في قمع المتظاهرين بعنف فإن معظم المشاركين في البينالي، تجاهلوا القضية، غير قادرين على الاعتراض. 

خلال الإفتتاح الرسمي، حاول الفنان إبراهيم قريشي (الذي لم يكن يعرض أعماله في المعارض) الاحتجاح مع مجموعة من الآخرين. وقف ضمن مجموعة صغيرة على السجادة الحمراء لنشر أسماء القتلى في البحرين في الوقت الذي دخل فيه حاكم الإمارات المبنى من بابه الرئيسي. قامت قوات الأمن المتواجدة آنذاك بقمع الفنانين المتظاهرين في غضون دقائق واقتيادهم إلى استجواب على يد أجهزة الأمن الداخلي في الشارقة إمتدّ خمس ساعات. لكن معظم المشاركين، وعلى الرغم من الذعر الذي ألمّ بهم وعبّروا عنه، استمرّوا في العمل كالمعتاد حيث ناقشوا الأعمال المنجَزة والمشاريع وتواصلوا مع بعضهم البعض وقبلوا الجوائز ضمن عشاء احتفالي نظّمه الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى لدولة الأمارات العربية المتحدة وحاكم الشارقة. بالنسبة للعديد من الفنانين، يبدو أن وضع الالتماسات والخروج من القاعة احتجاجاً أو رفض الجوائز لم يكن مطروحاً في المكان الذي كانوا فيه ضيوفاً. 

اللافت أنّ ما أثار ردّ فعل الفنانين العالميين في النهاية لم يكن الاحتجاج ومحاولة الإسكات اللاحقة، بل قرار السادس من نيسان الذي سنّه حاكم الشارقة سلطان بن محمد القاسمي والذي نصّ على إقالة جاك برسكيان، المدير الفلسطيني لمؤسسة الشارقة للفنون والمدير الفنّي لبينالي الشارقة آنذاك. وقد جرت إقالته استناداً إلى ما اعتبره الحاكم مهيناً في عمل الفنان الجزائري مصطفى بن فضيل Maportaliche/It Has No Importance[26]Simpson, Colin. 2011a. “Sharjah Biennial Chief Sacked Over One Work.” National, April 7, 2011. http://www.thenational.ae/arts-culture/art/sharjah-biennial-chief-sacked-over-one- work. … Continue reading. كان العمل عبارة عن تجهيز من مانيكانات في زي كرة القدم مموّه بتعابير عربية اعتُبرت تجديفاً (Fig. 3). وضع بن فضيل فريقين من المانيكانات في مكان عام في المنطقة التراثية في الشارقة. ارتدى الفريق الأول قمصاناً بيضاء موشّحة بعبارات أدبية خطّتها يد الفنان نفسه وتضمنت المطبوعات مونولوغاً من مسرحية بن فضيل Les Borgnes التي تدور أحداثها داخل جدران مصحّ عقليّ وتروي تجربة شابة تمّ اختطافها واغتصابها خلال الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينات. أما الفريق الثاني فقد ارتدى ترساً أخضر وأحمر--ألوان العلم الجزائري -- مع نصوص مستقاة من ثقافة البوب الجزائرية: النكات والوصفات والأمثال والأغاني الشعبية. وفي الجزء الصوتي من التجهيز أضاف الفنان تسجيلاتٍ حديثة للاحتجاجات التي انتشرت في الجزائر ذالك الشتاء في سياق الانتفاضات العربية.[27]Paynter, November. 2011. “Sharjah Biennial: 10 Plot for a Biennial (16 March–16 May 2011) and Art Dubai (16–19 March 2011).” Art Agenda, March 24, 2011. http://www.art- ورجّح بن فضيل أن الجزء الصوتي من التجهيز الذي يوحي بأنّ انتفاضة فعلية تحدث في الشارقة، بالإضافة إلى غرافيتي الشعارات التي تشير إلى الاحتجاجات التي جرت في مصر وتونس، كان وراء قرار حجب أعماله.

Figure 3. Muhammad Benfodil. Maportalich/ It has No Importance. Mixed Media Installation. 2011. Courtesy of the Artist.
Figure 3. Muhammad Benfodil. Maportalich/ It has No Importance. Mixed Media Installation. 2011. Courtesy of the Artist.

أدّى قرار اقالة برسكيان إلى نقاشات حامية في دوائر الفنّ العالمي حول الرقابة في الإمارات. صرّح برسكيان لصحيفة ذا ناشيونال الإماراتية "لقد ارتكبت حماقة. فإني لم ألتفت إلى العمل الفني بعناية، فلم تتسنّ لي الفرصة نظراً لكثرة الأعمال المشاركة". بادر أعضاء فريق القيّمين على بينايل الشارقة إلى إطلاق عريضة دفاعاً عن برسكيان سخر منها البعض وشكّك فيها آخرون خصوصاً في سياق تصريحه المهادن واعتذاره في الصحيفة الإماراتية. اعتبر عدد من الذين قابلتهم سواءً بالمحادثة أو من خلال الكتابة لاحقاً أن تلك الحادثة هي جزء من تاريخ طويل من تطويع الفنانين والمثقفين العرب على يد الأنظمة العربية. تعامل آخرون مع المسألة من وجهة نظر نقدية مؤسساتية للفن مطالبين من العاملين في الحقل الفني بأن يتعاملوا مع الإمارات بصفتها مماثلة لأي دولة غربية تُنتهك فيها حقوق الإنسان في الوقت الذي تعمل فيه على رعاية الفنّ النقدي والتقدمي. أما آخرون فقد تعاملوا مع المسألة من خلال وجهة نظر السياسات الثقافية للعروض الفنية في سياق الانتفاضات الثورية في الأنظمة الدكتاتورية. 

يرى بعض المراقبين الساخرين أن ممارسات بينالي الشارقة تتناقض مع الخطاب الذي يسوّقه عن كونه مساحة مفتوحة أمام الحوار النقدي، وقدرته على وضع الممارسات الثقافية الإقليمية على خريطة الفن العالمي. ويرى هؤلاء أنّ هذا المشروع لا يعدو أكثر من كونه محاولة دبلوماسية لنظام استبدادي يهدف للتسويق لوجه النظام الإنساني عالمياً. وعبر التركيز المكثف على الهوية الوطنية والتنمية الإجتماعية والتفاهم الدولي بطرق تصبّ في خدمة مصالحه الجيوسياسية، فإنّ نوايا بينالي الشارقة لا تختلف عن نوايا ممولي الثقافة العالمية (الغربية)، كمؤسستي فورد وسوروس والمجلس البريطاني والمركز الثقافي الفرنسي بالإضافة إلى معهد غوته وغيرها، إلا في التركيز على الهوية وحسب. في السنوات الأخيرة، يُنسب لدول الخليج ولا سيما إمارة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة الفضل في أخذ زمام المبادرة لقطع صلة الغرب عن التمثيلات العربية وصلة الاستعمار من خلال سلخه عن مصادره الأصلية أي المتاحف الغربية وعلاقتها التاريخية بالدولة القومية في زمن الإمبراطورية. والأمر عينه ينطبق على رؤية البينالي للبرمجة الثقافية وتموضعه كمنصة بديلة لإنتاج الفن والمعرفة. إن بينالي الشارقة كان السبّاق في ترويج لفكرة أن التيار الحداثي، في جميع أطواره، يطرح الإشكالية ذاتها بأشكال مختلفة ويفرض أنواعاً مخلتفة من التفاعل حول العالم. 

في سياق الاجتماع السنوي الذي تدعو إليه مؤسسة الشارقة منذ العام ٢٠٠٨، تحضر بانتظام مؤسسات فنية ربحية وغير ربحية وتنسيقيات فنانين ومساحات فنية ومؤسسات فنية لها اسمها لفرصة التشبيك ومشاركة أفكار وتطوّرات جديدة في المنطقة أو خارجها. بالتالي، بالنسبة للأقل تشاؤماً، ومن ضمنهم شريحة واسعة من الفنانين المحليين اليوم ممن يتمتّعون بصلاحية الارتقاء الإجتماعي اللازمين للانخراط في التعامل مع مجموعة كبيرة من المؤسسات الفنية العالمية والقيّمين والنقاد، تقدّم مدينة الشارقة الفضاء والتمويل والمنصة اللازمة لتشييد مساحة فنية تنموية للفنانين مدعومةٍ من خلال جهود فئات معينة مثل مؤسسة الشارقة للفنون وكذلك مؤخراً مؤسسة برجيل للفن، وهي مؤسسة مستقلة أسّسها رجل الأعمال والمعلّق السياسي سلطان سعود القاسمي ليتسنّى له حفظ مجموعته الفنية الشخصية وعرضها. يُنظر إلى المبادرات معاً على أنها تساهم في إنشاء موقع فاعل للتعامل مع أهم القضايا الاجتماعية والسياسية المطروحة على الساحة من خلال التركيز على دور “المثقف والناقد والطليعي” على حد تعبير برسكيان عن الشارقة تحديداً. وهذا ما جعل من الشارقة قطباً محورياً ودليلاً على نجاح العديد من الفنانين الشباب، الذين يشار إليهم في البحوث الفنية على أنهم أصحاب أعمال نقدية، طارئة وملحّة. 

باعتقادي، إن ما يتمّ استبعاده في النظرة التفاؤلية لازدهار دول الخليج باعتبارها المركز الثقافي الإقليمي هو مصدر التمويل المخصّص لتطوير الفن في تلك المنطقة، والغايات الكامنة وراء تلك المبادرات، إضافة إلى استغلال العمالة الوافدة. بالنسبة لعدد من دول الخليج، إن إزدهار المتاحف يدعم السردية المركبة للتاريخ الوطني كما يعمل على مساندة الأدوات السياسية للدولة. الاستثمار هذا في التراث الوطني القائم على الهوية الخليجية والعربية بالإضافة إلى التراث الإسلامي والقوة الإقليمية (خاصة في حالة الدول الكبرى كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية) قذ أثّر على رؤية الفاعلين الثقافيين في المنطقة من ناحية مسائل الهوية وتصويرها. 

إذن، هل التطورات الجارية في مشهد الفنون المرئية ناتجة عن رؤية غائية لتطوّر الأحداث انطلاقاً من المجتمع المدني وصولاً إلى الأسواق العالمية؟ أم أنها تقدمت عشوائياً مما مهّد الطريق أمام الفنون المرئية لاقتحام الدائرة العالمية لكل من سوق الفن وخطاب الفني العالمي؟ ربما حدث التقدم على جميع المستويات بشكل موازٍ وفي حركة تفاعلية. فيما كان فنانون إقليميون يحاكون الجماليات والخطابات العالمية، كانت مؤسسات التمويل النيوليبيرالية كما القيّمون الفنيون ينقبّون في المنطقة عن أعمال فنية محلية صالحة للعودة إلى مسقط رأسها. فالمسار، إذن، متكامل.

في العام ٢٠٠٢، صرّح الفنان اللبناني أكرم زعتري أنه بالنسبة للمشهد الفني في بيروت ما بعد الحرب فإنّ "الإنتاج لا يقوم على الطلب". إلا أن ليس غياب سوق فني محلي ومعاصر في بيروت ورام الله وعمان هو ما دفع المنطق الثقافي للرأسمالية العالمية بتخطّي الفنون المحلية. يستبعد زعتري هذه التطورات التي أتيت على ذكرها ها هنا، والتي كان لها تأثيرات مباشرة على الطرق التي حاكت أعماله كما أعمال معاصريه الذين صمّموا معارضهم خارج لبنان على شكل معارض عالمية. 

في العالم النيوليبرالي، إن ممارسات الفن المعاصر ومؤسساته ووظائفه طوّعت لتوائم متطلّبات سلطة الدولة والشركات. ولكن في رام الله وبيروت وعمان، لا المؤسسات الفنية الموجودة ولا أعراف الفن المعاصر طبّعت ما يرى ستالابراس أنه في صلب دور الفن: "مروّج للقيم النيوليبرالية". واللافت أن الطور الليبرالي في عالم الفن يُستشفّ أولاً في تلك المدن من خلال ارتباطها بالتمويل العالمي للإنتاج الثقافي في القطاع غير الربحي وتجذّرها في آلية انتاج وعرض عالمي تقيّم الثقافة في سياق أوسع لـ"السياسة الثقافية"—شكل مهني للفنّ حيث، كما يقول البعض، تكمن السياسة فيه في فن العرض.

وإذا تجلّت الآثار السياسية والاقتصادية للنيوليبيرالية عالمياً في تكثيف اللامساواة استجابة لرفع الضوابط التنظيمية والخصخصة في عالم متعدد الثقافات، فإن تعبيرها الثقافي مرتبط بالظواهر المزدوجة للنزعة الإستهلاكية غير المقيدة، بالتوازي مع منطقَي ما بعد الحداثة والتعبيرية. أما على مستوى آخر، أكثر "إقليميةً"، يمكن القول إن الدور المتصاعد للإمارات كقطب ثقافي فاعل في المنطقة تلتقي فيه مشاهد فنية "أخرى" من لبنان والأردن وفلسطين وغيرها، يجسّد نظام القيم النيوليبرالي الآنف ذكره.  إن هذا المنطق الذي يؤطّر تلك القيم والأسس البنيوية التي تحكم المجتمع المدني، وسوق الفن، والمشهد الفني "البديل" هو ما يخفيه الاستغراق بثنائية الحداثة والأصالة التي أشرت إليها في البداية.

Contributor
حنان طوقان

حنان طوقان أستاذة مشاركة في العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة بارد في برلين. تستخدم موقعها في الجامعة للمراجعة الذاتية والتفكير والتدريس حول الطرق الماكرة التي تتجلّى من خلالها السلطة في حياتنا، تنسلّ حيث لا نتوقعها فتخلق إجماعاً في أكثر الطرق المفاجئة. تهتمّ طوقان، إذن، بشكل خاص في الأدوار السياسية والاجتماعية التي تؤدّيها المؤسسات الفنية والثقافية في مجتمعاتنا وعليه، في الطرق المتشعّبة التي يقوّض بها الإجماع، ليس في الشرق الأوسط فحسب، ولكن في العالم أجمع، لا سيما في ألمانيا حيث تعيش والتي تعتبرها مسلية بشكل خاص.

Contributor
زياد شكرون

زياد شكرون—من مواليد بيروت عام 1982. يعيش ويعمل في مدريد وبيروت. حاصل على بكالوريوس في التمثيل والإخراج المسرحي من «معهد الفنون الجميلة—الجامعة اللبنانية»، وعلى ماجستير في الترجمة الإسبانية – العربية من «مدرسة طُلَيطُلة للمترجمين» في إسبانيا.  تعاون كممثل/مؤدي في العديد من الأعمال السينمائية والمسرحية مع فنانين من من لبنان وإسبانيا، حيث طور اهتماماً خاصاً باستخدامات الكلمة واللغة ومَكانة الجسد والصُّوَر في الزَّمن المعاصر.

Footnotes:

Footnotes:
1 Pratt, Nicola. 2006. “Human Rights NGOs and the ‘Foreign Funding Debate’ in Egypt.” In Human Rights in the Arab World, edited by Anthony Tirado-Chase and Amr Hamzawy, 114–26. Philadelphia: University of Pennsylvania Press.
2 ibid.114
3 Salamé, Ghassan. 1987. The Foundations of the Arab State: Nation, State, and Integration in the Arab World. Vol. 1. London: Routledge, 158.
4 Drennan, Daniel. 2010. “A Black Panther in Beirut.” Counterpunch. https://www.coun- terpunch.org/2010/01/13/a-black-panther-in-beirut/.
5 2002. “Contemporary Arab Representations, Beirut/LebanonSunday 15 September—Sunday 24 November 2002.” Witte de With Center for Contemporary Art. https://www.wdw.nl/en/our_program/exhibitions/contemporary_arab_rep- resentations_beirut_lebanon. P. 33
6, 11 Sadek, Walid. 2008. “Peddling Time When Standing Still; Art Remains in Lebanon and the Globalization That Was.” October 13, 2008. http://www.ghassansalhab.com/press/ Peddling%20Time%20When%20Standing%20Still.pdf.
7, 25 Williams, Raymond. 1977. Marxism and Literature. New York: Oxford University Press.
8 Shohat, Ellah. 1993. “Notes on the ‘Post-Colonial.’” Social Text 31–32: 99–11
9 Sylvester, Christine. 2009. Art/Museums: International Relations Where We Least Expect It. Boulder, CO: Paradigm.
10 “Contemporary Arab Representations, Beirut/LebanonSunday 15 September—Sunday 24 November 2002.” Witte de With Center for Contemporary Art. https://www.wdw.nl/en/our_program/exhibitions/contemporary_arab_rep- resentations_beirut_lebanon. P. 33
12 Rogers, Sarah. 2008. “Post-War Art and the Historical Roots of Beirut’s Cosmopolitanism.” PhD diss., Massachusetts Institute of Technology, p. 44.
13 Stallabras, Julian. 2004. Art Incorporated: The Story of Contemporary Art. Oxford: Oxford University Press, p. 10-15.
14 David ibid. 37.
15 Marks, Laura U. 2004. “The Ethical Presenter or How to Have Good Arguments Over Dinner.” Moving Image, 4 (1): 34–47.p. 46
16 Wright, Stephen. 2006. “Territories of Difference: Excerpts from an Email Exchange between Tony Chakar, Bilal Khbeiz and Walid Sadeq.” In Out of Beirut, edited by Suzanne Cotter. Oxford: Modern Art Oxford. P. 60
17 Falconer, Morgan. 2006. “The Long and Wounding Road.” Times, May 2, 2006.
18 Allsop, Laura. 2011. “Rabi‘ Mroue, the Lebanese Artist Starting a Creative Rebellion.” CNN, April 12, 2011. http://edition.cnn.com/2011/WORLD/meast/04/05/lebanon. artist.mroue/index.html.
19 Harvey, Simon. 2006. “Smuggling Practices into the Image of Beirut.” In Out of Beirut, edited by Suzanne Cotter. Oxford: Modern Art Oxford, p. 40
20 Faulkner, Simon. 2003. “‘Asylum Seekers,’ Imagined Geography and Visual Culture.” Visual Culture in Britain, April 2003.
21 Demos, T. J. 2008. “Image Wars.” In Zones of Conflict: Rethinking Contemporary Art During Global Crisis, 3–11. New York: Pratt Manhattan Gallery.
22 Farhat, Maymanat. 2009a. “Circuit Breaking: New Approaches to Art in the Arab World.” Contemporary Practices: Visual Arts from the Middle East 4. http://www.contemporarypractices.net/index.html.
23 Rockhill, Gabriel. 2014. Radical History and the Politics of Art. New York: Columbia University Press.p. 120
24 Kellner, Douglas, 1990b. “The Postmodern Turn: Positions, Problems and Prospects.” In Frontiers of Social Theory: The New Synthesis, edited by George Ritzer. New York: Columbia University Press, 275
26 Simpson, Colin. 2011a. “Sharjah Biennial Chief Sacked Over One Work.” National, April 7, 2011. http://www.thenational.ae/arts-culture/art/sharjah-biennial-chief-sacked-over-one- work. http://www.thenational.ae/arts-culture/art/sharjah-biennial-chief-sacked-over-one- work.———. 2011b. “Biennial Exhibit Led to Director’s Dismissal: Organisers.” National, April 10, 2011. https://www.thenational.ae/uae/biennial-exhibit-ledto-director-s-dismissal- organisers-1.576434.
27 Paynter, November. 2011. “Sharjah Biennial: 10 Plot for a Biennial (16 March–16 May 2011) and Art Dubai (16–19 March 2011).” Art Agenda, March 24, 2011. http://www.art-
Post Tags
Share Post
Written by
No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.