RR

أطول من برلين

 

١


المخيف في الكذب، احتمالية أن تصدّقه بعد النطق به، وهذا تحديداً ما حدث لي.

 

 كذبت على شركائي في السكن قبل أربعة أيام مُدّعياً أن عليَّ العودة إلى القاهرة بسبب مرض أبي المفاجئ، بينما، في الحقيقة، كان عليَّ أن أحضر زفاف أختي. ورغم أني كنت سأكتفي بالتعاطف أو على الأقل بعدم التشكيك في أن ظروفي صعبة، وجدتني أجني من وراء هذه الكذبة إعفائي من دوري في تنظيف البيت، والسماح لي بأن أُحضر دجاجة كاملة إلى ثلاجتنا التي حُرّم علينا إدخال أي حيوان فيها.

 

 فتماديت، في اكتئابي وقلقي على مرض أبي المزعوم، ثم في هلعي من احتمالية أن يُقبض عليَّ في مطار القاهرة لأي سبب. والمشكلة أنني من فرط ما حكيت عن القاهرة بأسى، تسّرب السواد بالفعل إلى ذهني واستحكم، ولم يفلح شيء في تلوينه. حتى صور أصدقاء القاهرة على انستجرام بمايوهاتهم وابتساماتهم على البحر، أو أي صورة كان مفادها أن القاهرة ظلّت كما تركتها منذ سنة، حياة رتيبة بمحاذاة نار لا تعرف إن كانت ستشتعل فيك أم ستستخدمها في حفل شواء.

 

 وقد يكون الأكثر رُعباً في الكذب، احتمالية أن تحوّله عشوائية الحياة إلى حقيقة فيصير نبوءة. وهذا ما تخيلت أنه يحدث لي في التاكسي المتجه للمطار. كان السائق ألمانياً أبيض، ومع أن هذا أفضل من تهور الأتراك في القيادة، وأفضل من الركوب مع عربي إما سيقضي الرحلة يسبّ الكفار أو يحاول مساعدتي في إيجاد وظيفة هامشية لي. إلا أن بشرة السائق كانت تُنبئ بالسؤال المتكرر الذي لا تعرف أبداً إن كان مصدره فضولاً أم تهكماً:

 

- ماذا تفعل في برلين؟

 

 وقبل أن ينطق السؤال، هربت منه بإغلاق عيني متظاهراً بالنوم. ولكن كأني تأخرت، فأغلقت عيني والسؤال بداخلها، ووجدتني أراه منطوقاً على لسان أبي، ثم أمي، ثم معازيم فرح أختي، كأنهم في دوائر ستوريز انستجرام: كلما انطفأت دائرة واحد منهم، لمعت دائرة آخر، ثم يسألني. فحاولت تخيّل الإجابة: بالطبع استبعدت تلك التي أقو ل فيها أني أعاني، عالماً بأن لا أحد من السائلين المتشبثين بأي أمل في الهروب من القاهرة سيتعاطف مع إجابة مثل هذه، خصوصاً من شخص تمكّن من تمويل رحلته لهذا الهراء المُسمى "اكتشاف الذات". واستبعدت أيضاً الإجابة الأقرب للحقيقة، أي أن برلين سرير جميل في فندق، سافرت إليه بعد سنوات من أرق سخيف في القاهرة، أستمتع فيها بشرب البيرة في الشارع، والساونا، والتعري في البحيرات، حتى أنا، لو استطعت أن أتخيّل نفسي أبيض اللون، لن أتعاطف مع إجابة مثل هذه.

 

 ولهذا أقول إنّ رسالة أختي جاءت بمثابة خلاص لي. جميل أن يمدّك أحدهم في لحظة بحقيقة تجعل كذبك واقعيًا. قالت:

 

- نضّف تليفونك كويس. ما تبالغش بس ما تنساش حاجة. لسه قابضين على شادي من المطار عشان علّق عند حد على خبر تعذيب مسجون في قسم!

 

 على الفور بلعت حبّة الزناكس التي كنت أنتوي أن أبلعها عند الوصول لمطار القاهرة، وأغلقت عيني من جديد، وإذا بسؤال "ماذا تفعل في برلين؟" يصير اتهامًا مباشرًا منطوقاً على لسان ضابط مُتخيل في جوازات المطار. صار لهلعي مبرِّر. وللتأكيد عليه أرسلت لأصدقائي ممّن كانوا قد خاضوا تجربة التفتيش عند الوصول للمطار، ولكن عيب أن يكون معظم أصدقائك مُحبين للأدب والفلسفة. أرسلت لهم سائلاً عن المقصود بالتنظيف دون مبالغة، فردّ واحد قائلًا: "تخيّل الضابط ضيفاً وهاتفك بيتاً، ومهمتك أن ترتب له البيت بحيث يحكم بأنك شخص نظيف. ولكن تخيّل أن رائحة الصابون والمعطرات هبّت في وجهه فور دخوله، في الأغلب سيشك في أن نظافة البيت صُنعت من أجله، وأنها ليست عادتك". وقالت أخرى: "المقياس الوحيد لحلاوة رائحة شخص ما، أن تعانقه بعد قضائه ساعات في الشارع، ورائحة الـشامبو تغطّي على كل شيء فيه"، والباقون قالوا أشياء تشبه ما يقوله حكيم عجوز تتمنّى دائماً مقابلته، شيئًا مثل: "شغّل دماغك"، ثم يتركك بلا تفسير.

 © سلام يسري (٢٠٢٠)
© سلام يسري (٢٠٢٠)

لماذا غادرت مصر؟ لأني كبرت على تحمّل تجاور الخوف والأمل في كل لحظة فيها. حتى الأطفال مُحبّي الملاهي، لن يحتملوا أن يُحكم عليهم بالاستيقاظ ثم ركوب الرولر كوستر كل يوم قبل الفطار.  ولماذا أعود إليها الآن إن كانت نظافة هاتفي قد تفصل بين حضوري حفل زفاف أختي وسجني لعدد من السنوات لا يعرفه أحد؟ هاجمتني تلك الأسئلة بعد نزولي من التاكسي، فجلست بجوار حقائبي عند مدخل مطار برلين أحاول تنظيف هاتفي وأنا مدرك عبثية المهمة. تمام، ليس تنظيفاً كاملاً يثير الشك، وبالتالي لن أحذف التطبيقات وتاريخ البحث والصور كما كنت أنتوي. ولكن هل أحذف محادثاتي مع أي ناشط أو حقوقي أو فنان أو كاتب؟ فلان حُقّق معه لمجرد وجودهم في قائمة أصدقائه. هل أحذفهم جميعاً؟ لن يبقى أي أصدقاء في التطبيقات. أبحث عن كلمات دالة يمكن أن تعرّضني للخطر؟ في الحقيقة معظم الكلام كذلك. وتاريخ البحث؟ حتى أنا لا أجد تفسيراً لماذا أشاهد يومياً فيديوهات عن المساجين في مصر بينما أجلس في البارك.


ماذا تفعل في برلين؟


وأخيراً، بدأ مفعول الزاناكس، فهدأت. كنت أمسك بشنطي متوجهاً إلى قسم شركة الطيران وأنا أذكّر نفسي أن حالات التفتيش هذه نادرة جداً، وأني بالتأكيد خارج قوائم المستهدفين منها، وأن مصر بالفعل بلد مفتوحة للخروج والدخول وقريباً ستستضيف قمة المناخ. وذلك حتى أتتني رسالة من صديق خرج مؤخراً من السجن، يخبرني فيها أنه عرف من أختي بأني قادم للقاهرة، ويشدّد على ألّا أنسى أن ألتقيه أثناء الزيارة. فتخيّلت رسالة مشابهة من أي من الأصدقاء تصلني بينما هاتفي في يد الضابط الذي يتأكد من نظافته، ووقفت أمام جملة وحيدة: أحمق مَن ينظف بيته في خضمّ عاصفة ترابية.

 

٢
 

أعيش في بيت مع ستة أشخاص. كلهم يظنون أن مؤسسة مصرية ما قد موّلت اقامتي في برلين من أجل إنجاز كتاب روائي. والحمد لله ليس بينهم مصري واحد وإلا كنت قضيت السنة الماضية في سهرات نوستالجية باكية. إثنان منهم عرب، وبالطبع كانا الصاحين الوحيدين حين عُدت إلى البيت قرب الفجر، وتجاهلتهما متجهاً إلى غرفتي. زين الفلسطيني، شاركني التمرد على سكان البيت بجلب أكياس البلاستيك أثناء التسوق، ولكن توتَّرت علاقتي به منذ الليلة التي ذكّرته فيها أن أباه نفسه وُلد في ألمانيا، بينما يدَّعي هو أن إقامته مؤقتة في ألمانيا حتى تتحقّق عودته القريبة إلى وطنه، فانفعلت عليه - غالباً انفعلت على نفسي - صارخاً بأن الإنسان مسؤول - في لحظة ما - عن حسم حياته، وإلا قضى حياته في مؤقّت دائم.


الثاني حسن، كاتب سوري حصل على كل منح الكتابة التي رفض محكّموها أن يمنحوها لي. ولاحقاً صار ينهي كل جملة بسبّ بوتين والتأكيد على أن كل المنح ستوجَّه الآن إلى اللاجئين الأوكرانيين. أصبح حسن صديقي منذ أن أصبح قلقاً على مستقبله. شيء ما كنت أخجل حتى من التفكير فيه كان قد حوّل مشاعري من النظر إليه كأنه يقصُف أمامي أو يغرق في البحر، إلى حقد عجيب ومُخجل تجاهه. شيء أعمق من التنافس على منح الكتابة والندوات، وأعتقد أنه تسرَّب إليَّ منذ  اصطحبني حسن معه إلى إحدى المظاهرات السورية. وبينما كنت مستعدّاً للبكاء على المأساة السورية، وجدتني مندهشاً من شراستهم في الهتاف بالألمانية، كأنهم منذ أن وقعت عليهم أسقف البيوت في سوريا صاروا فعلاً بلا سقف يعطّلهم. ووجدتني مُعجباً بشعار المظاهرة الأساسي "نحن هنا، على الجميع أن يتعامل مع هذا الواقع"، لأني فهمت أنه لم يكن موجهاً فقط للألمان، بل للسوريين أيضاً وهم يرسمون خطاً واضحاً بين الماضي والمستقبل.


وفي الأغلب ظهر حقدي تجاه حسن بعد هذه المظاهرة بيومين، حين فكّرت بالانضمام إلى مظاهرة مصرية صامتة تطالب بالإفراج عن السجناء السياسيين في مصر. وقفت على الرصيف المقابل أحاول التعرف على أيٍّ من المشاركين وفشلت، الكل أخفى هويته بارتداء القبعات والنظارات السوداء وماسكات الكورونا، وبعضهم أخفى حتى لون شعره بارتداء باروكة. ربما قضيت نصف ساعة أحاول التعرف على أي أحد من خلال تفاصيل يده أو حركة جسمه، ثم انصرفت بعد أن أدركت أني أقف بجوار مخبري السفارة الذين ينتظرون أي أحد أن يخلع الماسك عن وجهه ليتنفّس، فيلتقطوه بكاميرات هواتفهم.

مشيت في ذلك اليوم مسافة ١٢ كيلومتراً، وعلى غير عادتي لم أكن أضع سماعات في أذني، ولكن ظلّت أغنية جميلة من الطفولة كانت تتراً لبرنامج عن المهاجرين تضرب في أذني كأنها كابوس:


- مصر معاك مش ناسياك. لو هتكون في نهاية الكون، مصر معاك!


ومع أني قبل أن أنام ليلة أمس حجزت تذكرة جديدة إلى القاهرة لكي أصل مباشرة إلى فرح أختي، إلا أني أستيقظت اليوم بقرار حاسم يحلّ كل شيء: سأكتب على الفور مقالة، قصة، رواية، أي سباب يمكن إتهامي بسببه بنشر الغسيل الوسخ. سيحسم ذلك موقفي ويصير منعي من الرجوع واقعاً وليس هلعاً دائمًا، غير عابئ بأن يكون في المقالة، القصة، الرواية، الأي-سباب أي قيمة أدبية أو سياسية. المطلوب من النص فقط أن يحتوي على كل ما أتخيل أنه يجب إزالته من هاتفي.


ولكن لم تصمد الفكرة سريعاً، انطفأت وأنا أعدّ قهوتي. تحديداً حين مرّ توماس من أمامي متجهاً لجولة الجري اليومية. توماس يجيد الانجليزية، عمل من قبل في الشرق الأوسط، اعتدت أن أسبّ الألمان أمامه، وهو يبدي اعجابه بكل شيء أقوله، وله ابتسامة خيرية سخيفة تجاه كل أفعالي. حتى توماس، لم أستطِع تخيّل كيف أقنعه أنَّ النص عديم القيمة هذا يؤهلني للتقدّم للجوء في ألمانيا. كيف أستطيع أن أشرح أنَّ السبب هو مجرد احتمال، غير يقيني، وعشوائي، أن يفتش ضابط في المطار هاتفي من بين آلاف المسافرين، ويجد في كتابتي، ما أظن أنا، أنه سيغضبه؟


لا أعرف حتى الآن لماذا أغضبني هذا من الألمان، رغم معرفتي بأنهم غير مسؤولين عن عدم قدرتي على الشرح. ربما فقط حين يتملّكك دور الضحية بدون مبرر، يهرب منك الغضب إلى كل الاتجاهات. ولهذا طرقت على باب غرفة حسن، في نيتي أن أدعوه لأكل الشاورما، وفي خيالي أن نمارس طقسنا العادي في أن أمشي معه وهو يتخفّى خلف اللغة العربية لكي يسبّ كل من يأتي في طريقنا، ثم يلقي بأعقاب السجائر في الهواء، ثم يخطئ ويقول على الألمان "أجانب" أو يتذمّر من كثرة ما يسمع من لغة ألمانية في برلين. وكنت قد قررت أن أستمتع هذه المرة بهذا التمرد الصغير الساذج المتمثل في الغناء بأعلى صوت، وأني لن أخجل، وسأظل أطلب من حسن خفض صوته، أو أقول له كما قلت المرة السابقة:


- احترم السكان عشان يحترمونا!


وعلى عكس عادته، لم ينادِ عليَّ حسن من داخل غرفته ويسخر من أني أطرق الباب مُتأدّباً كالألمان. هذه المرة فتح لي وسألني مباشرة عن سبب عدم ركوبي الطائرة وعودتي إلى البيت، وأجبته بالحقيقة، بأن نوبة توتّر هاجمتني قبل دخول المطار، وأتبعتها كاذباً بأن حالة مرض أبي المزعوم صارت تحتمل أن أعود بعد يومين. وكان رد حسن فورياً:


- مبروك لأختك يا سيدي!


قال جملتين قبل أن يغلق الباب في وجهي. قال إنه اكتشف كذبتي بعد وصوله الى أختي على الفيسبوك راغباً في الاطمئنان عليَّ، وأن حزنه يكمن في عدم تخيله أني سأضحك عليه، كأنه من ضمن "الأجانب". لست متأكداً مما سمعت، لم أسمع بوضوح، كنت مشغولا بتخيل منظر أبي وأختي تخبره بكذبتي، وكان في خيالي كأنه قد مرض بالفعل فجأة.

 

٣


قدرتي على أخذ قيلولة وسط هذا التوتر جعلتني أصحو شاكراً لبرلين، مقرراً أن أطوّر علاقتي معها إلى ما هو أبعد من السرير، وأن أبادلها الحب والفهم بتعلّم لغتها، غير عابئ بالقلق الذي عطّلني لمدة سنة؛ أن تحل برلين مكان القاهرة.  لم أكن قد ألغيت بعد تذكرة الغد للقاهرة، ولكن هذا ما يحدث حين يلمع بديل في عينيك، ينطفئ على الفور ما تعده قديمًا. وبالتالي بدلآً من الاتصال بأختي للاعتذار عن كذبتي، وجدتني أتذكر مزحتها السخيفة ليلة مغادرتي القاهرة:


- مفيش ستات ألمان هتعبّرك. كلهم أطول منك


وكأنها إهانة تأخّرت سنة كي استوعبها. تذكّرت حساب تيندر وأنا مستلقٍ على السرير، وأعدت تفعيله مُضيفاً إليه وصف طولي (١٦٦ سم)، قابلاً التحدي الذي اخترعته لنفسي في لحظتها: أن تُعجب بي امرأة برلينية، ألمانية أصلية، لا تتكلّم الانجليزية ولا تعمل في الثقافة أو الفن أو محامية لجوء أو حاصلة على الماجستير في السياسة أو الأنثروبولوجيا، ولا تستخدم كلمة "العالم" العربي بمفرداتها كأننا قادمون من بلاد السحر. بل أقصد عاملة الكاشير في السوبرماركت التي تبدأ في التذمر- مع الطابور خلفي- بسبب بطئي في إلقاء ما اشتريت في حقيبتي القماش، أو زميلتها التي طلبت مساعدتها لتدلّني على رف الشاي، وبسببها قضيت أسبوعين من النعاس الدائم إلى أن اكتشفت أنّ ما أشربه نهاراً كي يوقظني هو "شاي" استرخاء. أو النادلة في البار التي لا أعرف إن كانت تسرق أموالي أم لا، تقول لي مبلغًا لا أستطيع ترجمته على الفور فأعطيها الكريديت كارد وتسحب هي ما تريد، أو زميلاتها في البارات الأخرى اللواتي لا يقبلن إلا الكاش، أكون متسلحًا لهن بمائة يورو في جيبي لكي أعطيها إياهن متأكدًا أنها أعلى من المبلغ الذي ينطقن به، أو واحدة من الواقفات في طابور الكلوبات، أو الرياضيات في البارك. 


كل من أعرف أن اللغة، وليس الطول، تمنع بيني وبينهن.


وبعد أن أعجبت بشكل عشوائي بكل الفتيات على التطبيق، لم أطق الانتظار بعين مفتوحة على الهاتف وهي تترقّب علامة الإعجاب الحمراء المنتظرة، فتحركتُ وطرقتُ على باب غرفة توماس، وطلبت منه شيئًا لأول مرة:


- اسمه ايه الكلوب اللي قولتلي ما ينفعش تبقى برليني من غير ما تروحه؟


وأجاب على الفور:


- بيرجهاين. يللا بينا!


وبعد دقائق كنت نسيت مشاكل الطول واللغة، فيما كان توماس يرسم بالكُحل خطين على جفنيَّ يمتدان حتى أذنيّ قبل أن نذهب للتسوق في محل قريب للملابس المستعملة. كانت هذه أول مرة أشعر أن توماس صديق لي، تحديدًا حين وجدني سأشتري قميصًا أسود شفافاً وبه ثقب ناحية الصدر الأيسر، فحذرني:


- مهمتنا ألا تبدو مثل محاسبي البنوك كعادتك. ولكن لا تبالغ!


أعجبتني سخريته مني، ولأول مرة لم يتحوّل حوارنا إلى تبادل ثقافي أشرح فيه أننا في القاهرة لم نملك أبدا حرية التعبير عن أنفسنا باختيار ملابسنا، وبدلاً من ذلك علّقت على زيه الذي لم يكن فيه لون غير الأسود:


- مفيش حاجة في برلين تستدعي اللبس كأنك رايح جنازة كل يوم!


ومن هنا انطلقنا، وسلّمت نفسي لصديقي الجديد يُلبسني كما يريد، يعطيني حذاءً ذهبياً فارتديه، وشورت كرة قدم فلا أمانع، مستجيباً لعشوائية ذوقه، متأكداً أنها مطلوبة، رغم تأكيده بين كل قطعة ملابس وأخرى يمدّها لي أنه يفتي وأن لا أحد في برلين يعرف على أي أساس يقبلون أو يرفضون دخول الزبائن في كلوب "برجهاين". الثابت فقط أنهم لا يرحّبون بالسيّاح، والمشاهير، والمتأنقين، والمتشردين، والمتزوجين، ما عدا ذلك، كل شخص آخر مُحتمل أن يدخل.

© سلمى سعيد
© سلمى سعيد

ومع ذلك، وقفت بكل ثقة مع صديقي في الطابور الممتد لأكثر من كيلومتر أمام الكلوب، متأملاً الزبائن المحتملين وهم يملأون وقت الانتظار بالشرب والفرجة على بعضهم، ومستمعاً إلى نظرية صديقي الجديدة والتي أتته بعد تأمل طويل في باب الكلوب حيث يتمّ اصطفاء الزبائن، في الأغلب لكي يُمهّد لي احتمالية رفضي الكبيرة:


- في الأغلب الاختيار لا يخصّ الفرد، بل بالخليط الذي يخلق ليلة سعيدة للجميع. أدخلوا سائحاً أمريكياً، ثم رفضوا اثنين بعده. ومقابل كل سيدة بفستان يُدخلون رجلاً بحلق في أذنه، ونسبة الرجال الوحيدين مقابل السيدات الوحيدات مستقرة ومتساوية منذ أن وقفنا في الطابور…


ولم يقطع سيل استرسال صديقي سوى كف، كف نزل على كتفي. حتى قبل أن أستدير عرفت انه كف أتى من القاهرة. كانت زينب، هاتف بيدها، تباغتني بالتقاط صورة لنا. ورغم أني كنت مُحرجاً من معانقتها لأنها كانت ترتدي حمالة صدر لا غير، ارتمت في حضني ثم أبعدتني عنها كأنها لاحظت متأخرة ملابس البهلوان التي كنت أرتديها، فقالت بسخريتها المعتادة:


- اللي انت لابسه كده سكة اللي يروح ما يرجعش يا ابني!


أتخيّل أنني باركت لها على انتهاء إجراءات اللجوء، أو ربما شدّدت أنني لم أقرّر الاستقرار في برلين بعد. لا أذكر تحديداً. المؤكد أنني تحجّجت بالرغبة في شراء بيرة من الكشك وانصرفت من الطابور، وأني صرت فجأة أتعرّق بشكل خشيت معه أن تسيح خطوط الكُحل السوداء على وجهي كله، وأني كنت أشم رائحة تراب بالتأكيد لم تكن لتأتي وسط كل هذه الأشجار، وحين عُدت كان على وجه صديقي ابتسامة قررت أنها سخيفة، ولم أنشغل بما ظلّ ينصحني به أن أظبط وجهي على أن يبدو غير متوتر وفي نفس الوقت غير مرتاح بشكل يجعل الحُراس يظنون أني لا أكترث للدخول، لأني كنت منشغلًا بمتابعة زينب تتّجه نحو الباونسر في تحدٍّ اعتادت عليه في أي موقف مع أي نوع من السلطة، وبدأت أتذكّر لقطات سريعة لها في مظاهرات عبر السنين، ثم رأيت الباونسر يسمح لها بالدخول.


وهنا توقف توماس عن ابداء النصائح، ووضع يده على كتفي وهو يتفوّه بحكمة لم أعرف مصدرها؛ إن كان يظن أن أبي بالفعل مريض، أم لتنبيهي أن حسن أخبره بكذبتي، أم مجرد تعليق على وقوفنا في الطابور، المهم أنه حكى لي عن مثل ألماني يقول:


- نهاية مفزعة أفضل من مأساة مستمرة.


ولم أبدِ لكلامه أي اهتمام، لأنني في هذه اللحظة كنت أتمنى بالفعل الدخول فقط لكي ألحق بزينب قبل أن تضع صورتنا على إنستجرام، مقرراً أن أتعلّل بأي شيء غير قلقي من أن تؤذيني الصورة لأي سبب في مصر، وربما لهذا بلعت ستيكر الـ أل أس دي فور استلامه من صديقي، غير عابئ بنصيحته أن أنتظر لأن كلا الاحتمالين قائمان، أن ندخل للكلوب ونسهر حتى اليوم التالي أو نُرفض فنعود للنوم مباشرة. 

 

٤

 

ربما لأنني لا أستطيع أن أدّعي معرفة برلين جيداً، سأكون كاذباً لو ادّعيت أن شيئاً تغيّر فيها وأنا في رحلة الـأل أس دي.


ظلّ الشجر أخضر، أخضر لم يزِد في لونه شيء، وظلّت كلمات المارة غليظة لم أسمع بها موسيقى، ولم أشمّ في الشوارع غير الشاورما. التغير الذي لاحظته هو أن طولي زاد متراً كاملاً، ولهذا انحنيتُ وأنا أعبر من تحت الكوبري، وأني أسير من دون استخدام خريطة جوجل كأني أعرف الشوارع، وأني أجري الآن أول محادثة على تيندر بالألمانية ولا أجدني احتاج الى مترجم. أنحني أيضا وأنا أدخل بيتها. من هذا الجالس على الكنبة في انتظاري؟ زوجها، أقصر مني بالطبع في حالتي هذه، وخطأ لغوي ما جعلني أفهم كل ما قالته لي بصيغة الجمع كأنه مفرد، وجعلهما يفهمان من كلامي في الشات أنني أقصد كليهما حين كتبت أنني أريد أن ألعق جسدها كله، وأنني معجب برقبتها، وكل تلك الأشياء التي لا نعرف كيف كتبناها بعد انقضاء اللحظة.

 

٥

 

 في التاكسي المتجه للمطار، كنت ما زلت طويلاً، وكنت على يقين أنني لن أعرف حجمي الحقيقي، مثل أي مسافر، إلا حين أصل إلى القاهرة. وامتزجت الحقيقة بالكابوس فكنت على يقين أنني عائد من أجل زفاف أختي ومن أجل مرض أبي المفاجئ، ولم أكن أنظّف هاتفي من شيء، كنت منشغلاً بالتحضير لسؤال السائق:


- ماذا تفعل في برلين؟


وكنت منقسماً بين كذبتين حقيقتين، أن أردّ بأني لاجئ، أو بأني هنا في زيارة مؤقتة.

 


هذا النص هو جزء من ملف عنوانه "برلين" أعدّته فيولا شفيق بالانجليزية لصحيفة المركز للفنون ويتناول تجربة كُتّاب وفنانين مع الهجرة إلى العاصمة الألمانية والكتابة فيها. تنشر مجلة فَمْ النسخة العربية الأصلية لقصة أحمد عوني.

Contributor
أحمد عوني

أحمد عوني كاتب ومحرر أدبي مصري. صدر له مجموعة قصصية "قلق مزمن" (2010) ورواية "جوائز للأبطال" (2019). مُهتم بمواضيع الذكورة والتغيير الاجتماعي والبروباجندا السياسية، وغير مهتم بمعرفة أبراج أصدقائه. مقيم حالياً ببرلين ويعمل على مشروعه الروائي الجديد "في مصنع الرجال"، حين لا ينشغل بمشاهدة الميمز على الإنترنت.

 

Post Tags
Share Post
Written by

<p dir="rtl"><span style="font-size: 14pt;">أحمد عوني كاتب ومحرر أدبي مصري. صدر له مجموعة قصصية "قلق مزمن" (2010) ورواية "جوائز للأبطال" (2019). مُهتم بمواضيع الذكورة والتغيير الاجتماعي والبروباجندا السياسية، وغير مهتم بمعرفة أبراج أصدقائه. مقيم حالياً ببرلين ويعمل على مشروعه الروائي الجديد "في مصنع الرجال"، حين لا ينشغل بمشاهدة الميمز على الإنترنت. </span></p>  

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.