RR

أرملة الأجنبي

IMG_4065.PNG

 تخرج من الباب رقم أربعة لقاعة الوصول في مطار بيروت، فيلفح وجهها حر الصيف اللاهب.

"انت وحدك... لأول مرة تصلين وحدك، ستعتادين على ذلك،" تهمس لنفسها وهي تجرّ الحقيبة فيما يتصبب العرق من اعلى رقبتها وجبهتها.

 في سيارة التاكسي التي استقلت لا يوجد مكيف أو ربما السائق لا يرغب بتشغيله. من المقعد الخلفي حيث تجلس، تنظر الى قفا رأس السائق، فترى العرق يسيل على رقبته كخيط رفيع. على مداخل العاصمة بدا من المستحيل التقدم ولو بأمتار قليلة. لاحظت أنّ السائق يتابع حديثاً لم تنتبه كيف بدأ ولماذا. بدا الرجل مستاءاً من كل شيء بل غاضبًا. كانت لا تزال في أجواء فقدان صديقها وشريك حياتها ولم تحسن الاصغاء. غابت لمدة أسبوعين بدت لها وكأنها شهور طويلة. كان جوًّا رماديًّا في مدينة بازل السويسرية حيث بقيت وحيدة أثناء حرق الجثة. بعد أيام قليلة، سلّمها الرجل العامل في المحرقة علبة معدنية فضية اللون قال لها أنّ فيها ما تبقّى من طوماس. في تلك اللحظة لم تدر ماذا عليها القيام به، أين تضع العلبة وماذا تفعل بها. ترددت لتقول له انها لا تريدها وأنّ وجودها معها في بيروت سيكون سلبياً بالنسبة لها، ففي ثقافتها لا يحرقون جسد الميت بل يدفنونه وتبقى مقبرته مكانًا لزيارة العائلة والأحباء ليضعون الأزهار حوله ويحدثونه ويبكون. فكرت ماذا ستقول لها عمتها التي تجد دائمًا في كل مصيبة باب ضوء، والتي تؤمن أنّ أرواح الأموات تبقى في نفس المكان حيث الأحياء. في النهاية لم تقل منى شيئًا للرجل خاصة حين مدّ يده معزّيًا ومودّعًا، موحيًا لها أنه أتمّ واجبه على أكمل وجه. ثم استدار وذهب بينما بقيت هي في مكانها صامتةً وبين يديها علبة معدنية لا تدري ماذا تفعل بها، تراقب من بعيد ظلًّا لرجل لم تلتق به إلا في ذلك اليوم. رأته يبتعد في قلب المبنى الطويل المائل الى الظلمة ثم ما يلبث أن يختفي.

عاش طوماس سنوات في رأس بيروت وكان يُدعى ب"طوم الاجنبي". قد يكون ناطور البناية هو من بدأ بادراج هذا اللقب الذي تحول الى اسم شائع للمقيم في شقة رقم ٤ في الطابق الأول من بناية حداد. وحين انتقلت منى للإقامة معه صارت تُسمى بزوجة الاجنبي. هي أيضًا لم يكن لها أقرباء ولا أهل تقريبًا. أمر لم يكن عاديًّا في لبنان حيث روابط الأسر والعائلات والطوائف حاضرة بقوة. قد يكون هذا المُشترك بينها وبين طوماس، أي غياب الروابط العائلية، قرّب فيما بينهما دون أن يعي أيٌّ منهما لذلك الأمر. أخبرها طوماس بأنّ ليس لديه أحد من العائلة وأنه كان وحيد أبويه. أما هي فلها تلك العمة المسنّة التي بقيت تقيم في بيت العائلة في قرية صغيرة في عمق البقاع الغربي، رغم سنوات الحرب ورغم اجتياح الأماكن الآهلة بالمحاربين وأفراد الميليشيات. كانت تؤمن بالأرواح وتعالج النساء لطرد الجنّ من الجسد وتعيش في الماضي وتردّد قصص العائلة التي لم يبق منها فرد واحد على قيد الحياة. كانت تزورها منى في فترات متباعدة وتروح العمة تخبرها كيف أنها ما زالت تسمع وقع أقدام الراحلين من العائلة في الغرف، وتؤكد لها أنّ أرواحهم ما زالت تسكن البيت. قصص سمعتها منى مرات عدة كانت تنهيها العمة بتنهيدة طويلة وهي تقول "يا الله سبقونا ورح نلحقهم لما بتجي ساعتنا"...

في سيارة التاكسي التي أقلّتها من المطار الى شقتها في رأس بيروت، لم تكن منى في مزاج أن تستمع الى السائق أو ترد بكلمة واحدة. كانت الذكريات تتدفق في رأسها كشلال. يكفي أن تغمض عينيها وتطلق لذاكرتها عنان صور آتية من السنوات الماضية. أرخت جسدها المتوتر على المقعد الخلفي. عليها في أشهر قليلة إخلاء المكان الذي سكنته لأكثر من خمس عشرة سنة. عليها إفراغ الشقة التي عاشت فيها مع طوماس من الأثاث والأشياء الخاصة وإخلائها قبل انتهاء العام. لن يكون بمقدورها الاستمرار في دفع الإيجار ولا حتى في المساهمة الشهرية في معاش الناطور. لم يترك طوماس شيئًا كتعويض مثلًا او معاش، وجزء كبير من مدخراتهما القليلة في المصرف تبخّر نفقات سفر لها لمرافقة جثته الى مسقط رأسه والاقامة في فندق لمدة أسبوعين ريثما تنتهي إجراءات الحرق. بعد تقاعده المبكر وكي يبقى ويقيم في بيروت، صار طوماس يعمل صحفيًّا "على القطعة" كما يقولون، أي يقبض لقاء كل مقال يرسله للجرائد في أوروبا. أما هي فبقيت تعطي دروسًا باللغة العربية للطلاب والصحفيين الأجانب الذي يأتون ويذهبون. هكذا تعرفت يومًا إليه. بدأت تعلّمه اللغة العربية ثم حين تطورت علاقتهما انتقلت للاقامة معه. وها هي الآن تودّع شريكها الذي مات ولم يترك شيئًا، ما عدا ورقة صغيرة كتب فيها أربع جمل يوصي فيها بكل مقتنياته وبحسابه المصرفي المتواضع. ما تجنيه لن يكفي لدفع ايجار شقتهما، وعليها أن تخلي الشقة أو تقبل مشاركة فتيات أخريات معها كما كانت تفعل سابقًا مع طالبات الجامعة. إلا أنها قد وصلت الى سن لم تعد فيه بطالبة ولا تستطيع ان تشارك أي شخص غريب في استعمال الحمام مثلًا. كذلك لا رغبة لها ما إن تفتح عينيها صباحًا أن تلتقي بأحد ولا أن تضطر لالقاء تحية الصباح على أحد.

رغم علاقتهما التي لم تتضّح يومًا إن كانت علاقة حب أم علاقة أخوّة أم صداقة أم جيرة، رغم تلك العلاقة المبهمة بينهما، كانت الاقامة مع طوماس تلائمها، إذ هو أيضًا كان قليل الكلام في أموره الشخصية. يتمتع بالحديث عن العالم الخارجي أكثر من تحدثه عن نفسه. لا يفك عقال لسانه إلا بعد ان يُفرغ زجاجة نبيذ أو زجاجات عدة من البيرة. لسنوات لا تُحصى لم يلتق جسداهما كحبيبين. لم يتضاجعا إلا مرات قليلة في بداية علاقتهما، ثم من حيث لا تدري تحولت علاقتهما الحميمة الى ملامسات ليلية. كان يلمسها ويمرر يديه على كل أنحاء جسدها. كانت تفكر فيما تبدأ بالنوم بين ذراعيه أنّ حياتهما المشتركة جميلة لكنها تبدو كلعب الأطفال. كانت تفكر أيضًا أنها غافلة تمامًا عن تهويماته حين ينطلق لسانه في الفراش بكلمات ألمانيّة لا تدري معناها. بعد حادث اعتقاله، توقف عن لمسها أيضًا. لا تعلم ماذا جرى له، أو إلى أيّ مدى عذّبوه. تعلم جيدًّا أنّه منذ عودته من الاعتقال السوري توقف عن لمسها وصار يقضي معظم الليل في غرفة مكتبه قبل أن يستيقظ ويدخل غرفة النوم.

"أحب لون قميص نومك،" بات يقول لها وهو جالس على حافة السرير استعدادًا لالقاء جسده والنوم. جملة كهذه اعتادت عليها، كأنه يشجعها بذلك على عدم التعري في الفراش. اعتادت على جمل لطيفة اخرى كان يجد دائمًا فرصة لقولها. جمل لطيفة هي بمثابة اعتذار عما لا يستطيع القيام به. اعتذار يجدده كل ليلة بطريقة أو بأخرى. ثم يدير ظهره وينام. باتت في الفراش تشعر بالعجز هي أيضًا. عجزٌ حتى عن الطلب منه أن يتضاجعا مثلًا او أن يقبّل شعر عانتها كما كان يفعل في بداية علاقتهما. ربما كانت مكتفية هي الأخرى هكذا. لا تعلم. تفكر أنّ الحب الجسدي كالفيزياء وأنّها لا تستطيع أن تجبره على الانجذاب الجسدي نحوها إن فقد رغبته بذلك. كان هذا يشعرها بقليل من الخجل وقليل من الشعور بالذنب. "لكن الحياة ليست صدفة،" تقول لنفسها وليس صدفة أنّهما التقيا، ورغم فراق جسديهما وموت الرغبة الجسدية فلا بد أنّ أسباب الحب كامنة في صفات أخرى تجمعهما. وإلّا ما الذي يفسر تعلقهما ببعضهما البعض دون فعل جنسي يشير إلى هذا التعلق ودون رغبة جسدية. كان يحبان الذهاب الى السينما معًا، أو السير على كورنيش المنارة يده تمسك بيدها، أو يتسوقان من القرى الجبلية المآكل النباتية التي لم تتعرض للمبيدات، أو يحبان نفس الأطعمة، وأولها الأطباق الآسيوية الحارة والسباغيتي مع حبوب الصنوبر المقلية، أو يتمتعان بلذة الجلوس معًا في المطبخ يتابعان الأخبار بينما هي تحضّر وجبة شهية للعشاء وهو يسكب لها كأس نبيذ أبيض فيما يخبرها عن المقال الذي يكتبه. وأحيانًا تخبره عن الرواية التي تقرأها والتي لم تستطع تركها في الليلة الماضية. كانت تبتسم في تلك اللحظات وهي تتخيّل مشهدهما كيف سيبدو بعد عشرين سنة وبعد أن يكونا قد هرما كفاية فيتوقفا عن شرب النبيذ وعن أكل الأطعمة الآسيوية الحارة. كانت تتساءل أيضًا هل من الممكن لاثنين لا شهوة جنسية لأحدهما اتجاه الآخر أن يستمرا ويشيخا معًا. ثم حضور ذلك الهر بينهما كان يسعدها. يمرّر رأسه على أرجلهما من تحت الطاولة ليعلن حضوره الخفيف، وسرعان ما يموء مواء عميقًا منتظرًا طعامه. أتت به منى ذات مساء وعمره لم يكن يتجاوز أسابيع قليلة بعد أن لحق بها من أمام سوبرماركت سميث وهو يموء دون توقف. شعرت بأنه اختارها هي و أنّ لا بدّ ان تأخذه معها الى الشقة حيث تقيم مع طوماس. هرم الهر الآن وما عاد يستطيع الركض واللعب في انحاء الشقة كما كان يفعل من قبل...

كانت منى أحياناً تراقب طوماس وهو نائم وتتخيل الصمت الذي يلعب بينهما كسهل منبسط تسرح فيه صور من ماضي علاقتهما، من الزمن الأول والقصير حين التقيا، حين كانت الرغبة لا يحدّها شيء، حين كان السرير يحتفل بجسديهما عاريين ينضحان عرقًا وهمسًا ولعابًا وماء لذاتيهما يرطّب أغطية السرير ويمنحهما عطرًا ينام معهما ويستفيق. كان زمنًا قصيرًا. لم يتعدّ الأشهر. لكن يبدو أنّ منى كما لو أنّها لا تريد الاعتراف بقصر ذلك الزمن وتوقّفه بعد انتقالها للسكن معه، فكانت تمدّ تخيلاتها وتوّسع دائرة تهويماتها حول علاقتهما الجنسية لتشمل مدى الزمن كله الذي جمعهما...

فكرت بكل ذلك بينما سائق التاكسي لم يتوقف عن حديثه حول الغرباء الذين خربوا البلد: "شو هيدا! مصيبة وحلّت علينا. من أول ما استقل هالبلد ما شاف يوم حلو. اجوا الفلسطينية وهلق السورية ...". بدا وجه السائق المتأفف من الوضع السياسي والاجتماعي ككرة حمراء قد تنفجر في أي لحظة. ثم انتقل في تأففه الحاد حول عجقة السير والتلوث وحرارة الصيف. يقول جملة ثم يتوقف وينظر حوله، كأنه يستعد للقتال مع أحد الركاب. لكن لا يوجد أحد بجانبه. منى هي الراكب الوحيد وهي تجلس في الخلف صامتة. وكلما ازداد غضب السائق كلما استدارت بكل جسدها لتنظر من نافذة السيارة وليبدو رأسها من الخارج كرأس تمثال. كان السائق بين وقت وآخر يحوّل نظره الى المرآة الصغيرة المتدلية من سقف السيارة أمام عينيه ليبدو كأنه يوجّه الكلام الى منى مباشرة وينتظر منها ردًّا. ثم لينهي جملته كل مرة ب "حلّوا عنّا ما بدنا غرباء... وحياة الانجيل والقرآن وكل شي في كتب مقدسة يا مدام، كانت حياتنا أحلى حياة قبل ما اجوا لعنا كلن..." ابتسمت في سرها هذه المرة. أثار تعجّبها أنّه يحلف بكل الكتب السماوية في آن معًا. هكذا يُرضي الجميع. يحلف بكل ذلك ويكره في آن معًا، بل يبدو مستعدًّا للقتال في كل لحظة.

"ليت الكتب السماوية تتحول الى لغة المؤنث... كم سيُصبِح الإيمان أكثر رقة، كم سيُصبِح الله أكثر أنوثة، ستنتهي كل الحروب حينها..." قالت لنفسها.

عاشت منى لسنوات مع طوماس، وطالما اعتقد الناس أنّهما زوج وزوجة. ورغم أنّ إقامة امرأة مع رجل دون زواج بات أمرًا شبه عادي في بيروت، صار سوء الفهم هذا يضايقها ويخلق لديها بين فترة وأخرى شعورًا بعدم الأمان ويدفعها الى الطلب من طوماس أحيانًا أن يتزوجا. على أنّ وضعها هذا ولّد لديها مشاعر متناقضة. إذ أنها من جهة ثانية كانت تشعر أنها متميزة وأنها اختارت حياتها كما تشتهي، وأنها تعيش حياة مستقلة ومختلفة عن حيوات نساء حولها تزوّجن وأصبحن ربات منزل فحسب. سمحت لها تلك الحياة المختلفة بالاحتفاظ باستقلالية خاصة، وبميزة الاختلاف عن الأخريات في المبنى وفي الجامعة حيث كانت تعطي دروسًا مسائية باللغة العربية. هذا الاختلاف كان يسعدها ويقوّي اعتدادًا في النفس كامرأة حرة مستقلة. لكن بعد أن تمّ خطفه من قبل المخابرات السورية على الحدود اللبنانية-السورية وهو عائد الى بيروت صباح يوم من أيام شباط الباردة عام 2012، أعاد الرجل النظر في شؤون حياته وصار يقبل التحدث بالزواج. لم يكن طوماس الخمسيني رجل زواج ولم يفكر يومًا ببناء عائلة وإنجاب الأولاد. فهو من مواليد ستينات القرن العشرين وشبّ في سويسرا ثم في فرنسا للدراسة، متأثرًا بأفكار الحركة الهيبية والنزعة الفردية ضد التقاليد السائدة في المجتمع. لكن تجربة خطفه واحتجازه لمدة شهرين كسرت شيئًا فيه، أخافته من أمر ما، ربما من المرض، ربما من الوحدة، ربما من العجز. أتى شابًّا الى بيروت كمراسل صحفي لتغطية الحروب اللبنانية. أحب الحياة في بيروت رغم حروبها، وقرر البقاء والاقامة الدائمة فيها، خاصة بعد أن صار صحفيًّا حرًّا يعمل لحسابه. كان يغيب لأيام وأحيانًا لأسابيع ثم يعود. يغطي الحروب ثم أحداث الربيع العربي في تونس ومصر، ثم في سوريا. ذلك الربيع الذي تنقّل من مكان الى آخر ليتحول الى حروب دموية أفقدت الناس معها أي أمل بالتغيير...

كان يخبر منى كلما عاد عن تنقلاته وعن المقالات التي يكتبها حول الأماكن التي زارها، إلا أنّه لم يخبرها أي شيء عن ظروف خطفه وعن مشاعره، وعن تدخل سفارة بلاده لإطلاق سراحه. بعد شهرين من اختفائه عاد ومعه رجل آخر من أصدقائه. بدا كأنه عائد من إحدى رحلاته الصحفية، تلك التي اعتادت عليها منذ أن انتقلت للسكن معه. اقترح على منى أن يصطحبها الى قبرص ليتزوجا هناك زواجًا مدنيًّا ويعودا الى بيروت كون لبنان لا يسمح بإجراء الزواج المدني على أراضيه رغم أنّه يعترف به. هذه واحدة من جملة تناقضات النظام اللبناني "المعجزة." لكن سرعان ما أصابه المرض القاتل ونسيا أمر الزواج وانشغلا في الزيارات المتكررة للمستشفى القريب للعلاجات الاشعاعية والكيميائية. لكن العلاجات التي امتدت لأكثر من سنة أبقته حيًّا لفترة ما لبث بعدها أن استسلم للمرض القاتل ورحل.

تفكر بكل ذلك الآن بعد أن وصلت للتو من سويسرا تحمل رماد جثته المحروقة في حقيبتها الصغيرة وتستقل سيارة تاكسي لتوصلها الى شقتها في رأس بيروت. إلا أنّ السيارة لم تتقدم سوى أمتار قليلة في ازدحام سير خانق. غابت أسبوعين إذ كان عليها ان تنفّذ وصية الرجل الذي عاشت معه أكثر من خمسة عشر سنة وهي تقريبًا لا تعرف أي شيء عن حياته السابقة في بلده قبل أن يصل الى بيروت ثمانينات القرن الماضي.

كان الخيال معينًا لها على الاستمرار والتأقلم. معينًا على مقاومة صمت أرادت كسره لمرات ولم تفلح. لكن بقي هناك أمور كثيرة يفرحان بها معاً، كيوم خروج الجيش السوري من لبنان، أو يوم اندلاع الثورة السورية. بدا كما لو أنه يصفي حسابًا سابقًا مع قوى لم يشأ يومًا الافصاح عنها. كأنّ الفرح المشترك بينهما كان عامًّا وبعيداً عن الحميمية هو الآخر.

لم تدر أنّ السيارة قد وصلت الى أمام المبنى إلى أن انتبهت الى جملة السائق الذي رددها مرات عدة: "خمسة وعشرين ألف ليرة مدام، الحمدالله عالسلامة!" ناولته المبلغ ونزلت كأنها نائمة. أمام المصعد في مبنى حداد حيث تقيم، حيّتها سيدة تقطن في الطابق الثاني، ثم سيدة أخرى. اقتربتا لتعزيتها. هي الآن بنظر الجميع أرملة الأجنبي. خطر لها أن تقول لهما أنها ليست أرملة أحد ولم تكن زوجة لأحد. وأنّها رغم ذلك كانت امرأته وشريكة حياته، وأنّها تفتقده وأنّ حياتها ستكون صعبة بعد فقدانه، وأنّها تستحق العزاء رغم غياب الزواج. إلا أنها لم تقل أيًّا من ذلك الكلام. سمعت نفسها ترد بشكل آلي على كلمات العزاء بكلمات مقابلة وصوت منخفض ضعيف.

وقفت طويلًا أمام باب شقتها في الطابق الأوّل. بدت كأنها تستريح من عناء ما. انتبهت فجأة أنّ علّاقة المفاتيح التي تبحث عنها في حقيبة يدها كانت له. انتبهت أيضًا أنها طوال الطريق من المطار الى البيت لم تكن فقط تتذكر حياتهما معًا، بل أيضًا تتابع حديثًا طويلًا معه  كأنه لم يغادر، كأنّ الغياب كذبة، كأن قلبها باستطاعته أن يغفر حتى للموت...

صباحات عدة مرّت بعد عودتها من السفر بدأت فيها تتعلم العيش وحيدة. صباحات ترغب فيها بالتحدث إليه. بدا لها أنّها لم تبدأ الدخول في حياته إلا بعد موته. لكن أخذ منها الأمر أكثر من شهرين قبل أن تجد القوة لتمشي باتجاه غرفة مكتبه وتفتح بابها. كان عليها القيام بذلك قبل ان تخلي الشقة في نهاية العام. كان عدد الأدراج لا يحصى، البعض منها مقفل. فتّشت عن مفاتيحها ووجدتها على أحد رفوف المكتبة خلف كتاب رسائل الى ميلينا لكافكا.

كان عليها أن تفتح تلك الأدراج وحدها. وجدت صورًا ورسائل كثيرة موضبة في علب من الكرتون المقوى. كما وجدت بين أغراضه أشياء مفاجئة مثل لباس داخلي لامرأة أكبر من مقاسها هي. وجدت أيضًا لباسًا آخرًا قديمًا، ربما كان قد أخبرها عنه يومًا أنّه لأول امرأة في حياته. وجدت ثالثًا ورابعًا بقياسات مختلفة وكتابًا بورنوغرافيًّا وصورًا لنساء عاريات. وجدت ألواحًا من الشوكولا السوداء. وجدت أيضًا سيارات ودراجات صغيرة من البلاستيك، تلك التي يلهو بها الصبيان الصغار، كذلك صورًا لأبيه قام طوماس بتغيير ملامح الوجه عبر اضافة لحية وشاربين كثيفين، وصورًا أخرى للأب أيضًا ممزقة الى جزئين. كيف لم تلحظ كل ذلك في غرفة مكتبه وبين أغراضه؟ كان يضعها في أدراجه لكنها لم تفتش فيها يومًا. منذ البداية وهو يهتم بأمور غرفة مكتبه وأغراضه. سكن الشقة قبل انتقالها إليها بكثير. اعتادت على احتلال مكانها هي فقط: قربه في السرير وعلى الكنبة في غرفة الجلوس حين ترغب بالاستلقاء للقراءة، والكرسي في غرفة الطعام ثم مكان أوسع في المطبخ وعلى الشرفة التي زرعت أصصها بالغاردينيا.

تحمل بعضاً من أشياء طوماس الخاصة والسرية وتقف في وسط الغرفة. تكتشف في تلك اللحظة أنها لم تعرفه تمامًا، وأنها لم تعرف يومًا ما يحب فعلًا وما يكره. لم تعرف يومًا ما هي الأشياء الحميمة التي تعلّق بها وواظب على اقتنائها أو رؤيتها أو استعمالها أو حتى تخيّلها. لم تعرف الطفل فيه ولا المراهق. لم يخبرها عن أبيه ولا عن علاقتهما. كل ذلك كانت تجهله كأنها كانت تقيم، ولسنوات طوال، مع غريب. فجأة تتذكر يوم عملت على إجهاض نفسها وفقدت الكثير من الدماء. كان بعد شهرين من علاقتهما وكان عليها أن تذهب وحيدة الى مستشفى الجامعة الأميركية. "ليتني أبقيت ذلك الطفل،" تهمس لنفسها الآن. ليتها أبقت على جنينهما. يومها أصرّت الممرضة أن تسألها عن اسم زوجها. "لكنني لست متزوجة،" أجابت منى وهي تغمض عينيها ممددة على سرير المستشفى. شعرت بقسوة الممرضة وهي تغرز إبرة المصل في ظاهر يدها كأنها تعاقبها. في صباح اليوم التالي عادت الى البيت تقاوم رغبة في التقيؤ.

من وسط غرفة المكتب حيث تقف، رأت من النافذة الشمس تميل الى المغيب. على الأرصفة في الخارج انعكست أنوار السيارات المارة. تلمع المياه المتجمعة بركًا صغيرة موحّلة. إنه نهاية الخريف. تشعر بالبرد فجأة وتنتبه أنّ ملابسها غير كافية لبرد مماثل. تغلق النافذة، تطفىء ضوء غرفة المكتب وتخرج...

استيقظت منى هذا الصباح ورغبة بالصفير مستبدة بها. لبست معطفها الواقي من المطر ثم خرجت ومشت صوب البحر. في مقهى الروضة ما زال العمال ينظفون آثار الليلة السابقة بالمياه والصابون. مشت على الأرض الرطبة صوب حافة شرفة المقهى. كان المقهى فارغًا. جلست وطلبت فنجانًا من القهوة. فكرت أنها لا تستطيع أن تتحكم بالزمن ولكنها تحاول ألّا تجعله يتحكم بها. في تلك المحاولة تعيش مشوار الحياة وتكتشف أنّ ما مرت به لن تمر به ثانية وأنّ اللحظة التي عبرت هي الماضي وأنّ السعادة التي عاشتها كأنها حركة مدّ وجزر تختفي ولا بد ستعود، مثل موج هذا البحر الذي تراه أمامها.

تنظر منى الى الزرقة التي تمتد أمامها وتعود الى الوراء سنوات لم تحسن عدّها. ما عاد بمقدورها أن تقول "غدًا أفكر بالأمر" بنفس السهولة التي كانت تقولها منذ سنوات، وحتى أثناء الحرب. لكنها ستقولها اليوم، تهمس لنفسها فيما ترشف ما تبقّى من فنجان قهوتها. تنظر ثانية الى البحر المنبسط أمامها وتفكر أنه هرم وبدا عاجزًا عن دفع الموج الى الشاطىء. ثم تروح تصفّر. يرتفع صفيرها ثم ينخفض غصبًا عنها وسرعان ما تضطر الى أخذ مقدار من الهواء كي تستمر في الصفير. بدا لها أنّ هذا الصوت المنبعث منها قد هرم هو أيضًا.

Contributor
Iman Humaydan

Iman Humaydan / إيمان حميدان is a Lebanese novelist and researcher interested in women’s voices, memory, identity and post-war issues. She has authored four novels, all of which have been translated internationally. Her last novel, khamsouna ghraman mena al janna (Weight of Paradise), won the Katara Prize in 2016. The French translation was shortlisted for the Literary Prize of the Arab World Institute in Paris. She is co-founder of PEN Lebanon and has been president since 2015. She has also edited and published several volumes including Beirut Noir, a short story collection. She is currently writing her fifth novel and lives between Beirut and Paris.

Post Tags
Share Post
Written by

Iman Humaydan / إيمان حميدان is a Lebanese novelist and researcher interested in women’s voices, memory, identity and post-war issues. She has authored four novels, all of which have been translated internationally. Her last novel, <em>khamsouna ghraman mena al janna</em> <em>(Weight of Paradise)</em>, won the Katara Prize in 2016. The French translation was shortlisted for the Literary Prize of the Arab World Institute in Paris. She is co-founder of PEN Lebanon and has been president since 2015. She has also edited and published several volumes including <em>Beirut Noir</em>, a short story collection. She is currently writing her fifth novel and lives between Beirut and Paris.

No comments

Sorry, the comment form is closed at this time.